د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

القذافي وروحاني والعجوز؟

قبل كل شيء، لا بدّ من التوضيح: المقصود بالعجوز هي أوروبا. ذلك أنه عندما تتواطأ قارة عجوز - وهي امتياز وليست شتيمة - نعدها مرجعية العقلانية والقوة ومهد الثورتين الصناعية والفرنسية، مع ما يعنيه ذلك من منجز مادي وفكري في مجال الحداثة، في هذه الحالة يصبح التواطؤ مضاعفًا وخطيرًا وهدامًا أيضًا.
مشكلتنا مع النخب الحاكمة في أوروبا والغرب بشكل عام أنها تنقلب على مبادئها ومعاييرها من أجل الصفقات المربحة والعقود البراقة. تفعل ذلك دون أن تدري أنها بصدد إهدار رأسمالها الرمزي القيمي، الذي لا يُقدر بأي ثمن أو صفقة أو مطامع مالية ظرفية.
وفي الحقيقة، تمثل المواقف التي انقلبت فيها بعض الدول الأوروبية على مبادئها الحداثية والعقلانية أذى كبيرًا للنخب المنتمية إلى الفضاء العربي الإسلامي، حيث يقوم الأنموذج بهتك نفسه بنفسه، مّما يضرب بقوةٍ مصداقيةَ ما هو رمزي وقيمي، عندما نكتشف أن أعرق الديمقراطيات وأعرق المجتمعات بسالة في الدفاع عن العقل والحرية والإبداع مستعدة للانخراط في لحظة نكوص للحرية وللعقل. في هذه اللحظات بالذات تصبح خسارتنا مضاعفة ولا حدّ لها، وهي خسارة تنتج إحباطًا فكريًا حقيقيًا ومشروعًا.
عشنا في الأيام الأخيرة لحظة جديدة من لحظات تواطؤ العجوز الواعي والنفعي وذي المصلحة الضيقة قيمة وزمنًا. فأن تفرض إيران أوامرها على إيطاليا بلد الفن والمعمار ويملي روحاني شروطه على تمثال فينوس إلهة الحب والجمال والخصوبة، التي كانت كبيرة آلهة الرومان، فذاك أمر صعب ومستفز في نفس الوقت. فكيف استطاعت روما أن تخذل تمثال فينوس، الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي، وتغطيه بصناديق من الخشب كي لا تتأذى عينا روحاني؟!
إن مقابل هذا الخذلان رخيص جدًا مقارنة بالضربة الرمزية التي تعرض لها متحف كابيتوليني بروما، حيث تم إجبار المنحوتات العارية على التغطية قسريًا. إنه مقابل رخيص، إذا صدقت وسائل الإعلام التي أعلنت أن قيمة العقود التي تم توقيعها بين الشركات الإيطالية وإيران تقدر بـ18 مليار دولار.
لقد نجح روحاني مع الأسف في جرح الفن والإبداع والتاريخ، ونجح أكثر عندما جعل روما تتشبه بـ«داعش» ولو رمزيًا. ما الفرق حقيقة بين من يحطم المنحوتات والتماثيل الحاملة لقصة تاريخ الإنسانية وبين من يُغطيها؟ يبدو لي أنه نفس الفرق بين من يلقى الإعدام ومن يُحكم عليه بالسجن.
كان يمكن لإيطاليا أن تجنب نفسها هذا الموقف وألا تعتمده عربون عقود اقتصادية.
المشكلة الأكبر أن إيران على امتداد السنوات الطويلة صُنفت كدولة داعمة للإرهاب وتحوم حولها شكوك عميقة وكبيرة، ممّا يجعلنا نستنتج أننا حقًا أمام نوع من النفاق المفضوح، الذي يحمل بصمة من بصمات أوروبا العجوز.
إننا نتبنى مثل هذا الاستنتاج، لأن العالم اليوم يعيش على وقع تهديدات الإرهاب وعنف التنظيمات الإرهابية الحاملة لمشروع تكفيري، لا يؤمن بالحرية وعدم التمايز بين الجنسين وبإعمال العقل والاجتهاد والنقد. ومن ثم فإن ما تم ترويجه إعلاميًا من أن تغطية التماثيل هي لتجنب الإساءة للرئيس الإيراني، يبدو لنا أنه ينطوي على مفارقة وتناقضات لا تزيد حالة التعقيد في العالم إلا تأكيدًا.
وفي الحقيقة، يذكرنا هذا الموقف بموقف آخر عرفته عاصمة الأنوار باريس ومهد الثورة الفرنسية فرنسا، حيث فرض في يوم الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان، العقيد الليبي الراحل القذافي في ديسمبر (كانون الأول) 2007، نصب خيمته في قلب باريس وفي واجهة فندق ماريني المقر الرسمي الخاص لزعماء الدول الأجانب وقرب قصر الإليزيه. ساعتها لم يأبه ساركوزي لانتقادات المجتمع المدني الحقوقي، واستقبل رغم أنف دعاة حقوق الإنسان، القذافي رسميًا بالسجاد الأحمر رغم أنه مصنف دوليًا من داعمي الإرهاب ونظامه صاحب ممارسات إرهابية. ولكن انفتاح ليبيا آنذاك وتوزيعها للعقود يمينًا وشمالاً على العواصم الأوروبية أسال لعاب ساركوزي، واستفاد منه في تمويل حملته الانتخابية لتجديد الفترة الرئاسية. نعم، حملة انتخابية رئاسية في أعرق الديمقراطيات في العالم تشوبها روائح غير طيبة في أقل الأوصاف. ونتذكر جيدًا كيف أنه بعد السجاد الأحمر وهبوب «نسائم» الربيع العربي، كان ساركوزي في قائمة الشخصيات التي عملت على الإطاحة به.
إن الغرض من التوقف عند هذين الموقفين الإيطالي والفرنسي ليس الإدانة في حد ذاتها، بل ما يهمنا وندافع عنه في هذه الورقة البسيطة هو سهولة غالبية النخب الأوروبية الحاكمة في التفريط في الرأسمال الثقافي أمام صفقة اقتصادية، وفي الانقلاب على مبادئها المتوارثة التي تمثل نضال أجيال متعاقبة من أجل الفن والحرية والعقلانية، خصوصًا أن الرضوخ لروحاني حاليًا وللقذافي سابقًا لم يكن في إطار احترام الخصوصيات الثقافية بقدر ما هو نوع من التركيع كمقدمة لتوقيع العقود.