سوسن الشاعر
إعلامية بحرينية تكتب في بعض الصحف البحرينية منها «الوطن» و«بوابة العين الإخبارية». عضو في مجلس أمناء «جائزة الصحافة العربية». كانت مقدمة لبعض البرامج التليفزيونية. خريجة جامعة بيروت العربية.
TT

من هي دولة (الجور والظلم)؟

دعك من قصة أهمية الأمن الغذائي، فتلك حكاية مهمة لكنها ليست مربط فرسنا اليوم، وأنا أتجول في معرض الحدائق الذي افتتح في مملكة البحرين الأسبوع الماضي، اليوم أنا أنظر إلى تنامي العلاقة الإيجابية بين رواد الأعمال من الشباب الشيعي مع الدولة كأكبر الإنجازات في ذلك المعرض، وأعده إنتاجا يفوق جودة الإنتاج الزراعي لتلك المشاريع الرائدة رغم أنها منتجات زراعية جاهزة للتصدير وبتغليف يضاهي المنتجات الغربية، إلا أن التعاطي الإيجابي بين شباب شيعي ينتمي لمناطق تعد بؤرة المصادمات الليلية مع الدولة في هذا الوقت تحديدا، وبعد أن استشرى فكر ثيوقراطي بينهم يدعوهم لمناصبة الدولة العداء، أرى أنه الإنتاج الأجمل للحدائق البحرينية.
الاهتمام بالزراعة الذي أبدته الأميرة سبيكة بنت إبراهيم قرينة الملك ورئيسة المجلس الأعلى للمرأة، وهي إحدى رموز الحكم أعطى دفعة قوية للراغبين في الاستثمار في هذا القطاع فتقدمت «الدولة» بعدة مبادرات تجاه الشباب منها مبادرات صندوق العمل «تمكين» فقدم برامج مساعده لصاحب المشروع الزراعي كالتدريب والتسويق ومسك الحسابات ووزارة التجارة تساعده على تصدير منتجاته الزراعية وبنك التنمية يمنحه قروضا حسنة، وبنك الإبداع ووزارة التنمية للمشاريع الصغيرة وإدارة المعارض وكثير من وزارات الدولة الأخرى فتحت الباب مشجعة، المحصلة النهائية لهذا الحراك أن الدولة تقدمت بخطوات تجاه الشباب دون تمييز ولم نر حاجزا طائفيا أو مناطقيا يحول بين النجاح وبين الشباب بل رأينا فرصا متساوية، النتيجة النهائية اختار شباب في الثلاثينات من أعمارهم التخلي عن الوظيفة الحكومية والاتجاه للسوق، ليعرضوا منتجاتهم الزراعية وابتكاراتهم العلمية الخاصة بالري والزراعة القابلة لا للتسويق المحلي فقط، بل للتصدير كذلك وبهذه الخطوة التصالحية مع الدولة تَحقق إنجاز كبير في فترة زمنية صغيرة وفي ظرف حرج وصعب عملت ماكينة الهدم الثيوقراطية الفقهية على قطع العلاقة بين الشيعة والدولة ومناصبتها العداء من منطلقات لا علاقة لها بإصلاح أو ديمقراطية أو حقوق، إنما هو فقه الانتظار لفرج عودة «الإمام» إن صح التعبير.
في اليوم ذاته، الذي تم فيه افتتاح معرض الحدائق السنوي والذي عرض به شباب القرى نماذج من إنتاجهم الزراعي، تم تسريب شريط فيديو سجله من محبسه أحد المحكومين بالإعدام في قضية قتل الشرطة الثلاث (الشحي «الإماراتي» ورسلان وعمار البحرينيين)، اعترف فيه المحكوم بأنه خريج بكالوريوس من جامعة البحرين كان يعمل مدرسا للتربية البدنية في إحدى المدارس، وبعد أن أنكر التهمة المنسوبة إليه، دعا أقرانه من الشباب لإكمال الطريق الذي سار عليه بأمر الله كما يقول، وهو مناصبة العداء لدولة «الجور والظلم» وهو المصطلح المعروف لدى الفقهاء الشيعة بأنها الدولة التي لم يحكمها إمام الزمان الإمام المهدي المنتظر، أو لم يحكمها من ينوب عنه وهو الولي الفقيه حسب أتباع نظرية «ولاية الفقيه»، ثم دعا المحكوم العلماء لتحمل مسؤوليتهم والحث على قطع الطريق بين أقرانه والدولة كما قطعوها بينه وبينها حتى لا يعينوا الظالم!!
هذا الشاب العشريني رعته صحيا دولة (الجور والظلم) البحرينية كما يسميها، منذ لحظة تخلقه جنينا في بطن أمه حتى بلوغه 24 عاما مجانا، من دون أن يدفع فلسا واحدا بتحاليله الطبية بتطعيماته بأدويته بفحوصاته بعلاجه بمبلغ معدله يفوق المعدل الذي تدفعه دول بترولية غنية للفرد وفق إحصائيات البنك الدولي رغم محدودية موارد البحرين، فمعدل ما تصرفه الدولة على المواطن لرعايته الصحية في البحرين 1134 دولارا، وما تصرفه إيران الغنية بالبترول 490 دولارا!! هذا الشاب العشريني اختار تخصصه وتخرج في الجامعة وتكلفة تعليمه بلغت 100 ألف دينار لم يدفع والده شيئا منها وتكلفة غذائه المدعوم كيلو اللحم (دولاران ونصف) وفي إيران تكلفة نفس اللحم 19 دولارا، وطاقته المدعومة بأسعار يطير لها عقل الوفود الزائرة حين تعلم بها، ورغم أنه موظف يتسلم راتبا أساسيا قدره 700 دينار عدا العلاوات وهو حديث التخرج، إلا أنه يعد البحرين دولة جور وظلم، مع الأخذ في الاعتبار أحد أسباب إضراب المعلمين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية قبل أيام هو تدني رواتبهم حيث بلغت 70 دينارا بحرينيا، أي واحد على عشرة من راتبه، ومع ذلك فقد ناصب الدولة البحرينية العداء وعدها دولة جور وظلم وتمييز طائفي، ويعدّ إيران الدولة التي يحكمها ولي فقيه دولة عدل وإنصاف!! (ليس هناك دولة ديمقراطية تعطي تلك الحقوق للمواطنين مجانا، بل في جميع هذه الدول يدفع المواطن ضرائب مقابل هذه الخدمات وتتكفل مؤسسات الدولة بتوفيرها له).
البحرين كبقية دول الخليج اختارت نموذج الدولة الريعية فوفرت جميع الخدمات حتى السكن بأسعار رمزية وحتى الغذاء فيها مدعوم والآن المطالبات أن تتكفل الدولة بالمهر ومصاريف الزواج أيضا.. ما علينا تلك حكاية أخرى.. إنما القصد بأنه رغم ما قد نتفق عليه من وجود مظاهر للفساد أو سوء إدارة أو ميلان في ميزان العدالة الاجتماعية إلا أن البحرين من الدول التي منحت المواطن خدمات راقية جدا تضاهي في نوعيتها خدمات يدفع ثمنها غاليا في دول أخرى، وتقييم نوعية الخدمات ليس اعتباطيا، إنما هو تقييم منظمات دولية كمنظمة الصحة العالمية والبنك الدولي التي وضعت البحرين في موقع متقدم وقدمت تسهيلات ومنحت فرصا للشباب لا يجد مثيلها في دول غنية وديمقراطية أخرى، يكفي أن يكون نموذج تعاطي الدولة البحرينية مع رعاية رواد الأعمال الشباب هو النموذج المعتمد في الأمم المتحدة ويطلق عليه «نموذج المنامة» تحديدا، حيث تأتينا الوفود العالمية لدراسته وتقليده وتبنيه بمساعدة اليونيدو إذ بدأ الشباب يقتنعون بأن الفرص المتاحة في سوق العمل أفضل من الوظيفة الحكومية وفي معرض الحدائق صور لمشاريع زراعية ناجحة طبقت نموذج المنامة، حين ساعدتها الدولة بالتمويل والتسويق والتدريب حتى وقفت على رجلها وبدأت مرحلة التصدير، ومع كل هذا العطاء والعلاقة التفاعلية الإيجابية بين الشباب والدولة فإن هناك من يستفيد من خلق حواجز العداء، هناك من يستخدم الموروث الديني وإسقاطاته كي يعيش هذا الشاب وأقرانه من الشيعة حالة عداء مع الدولة ومع المجتمع المحيط به فيرى كل (آخر) عدوا له، الآخر إن كان من مذهب مختلف، الآخر إن كان من مؤسسات الدولة، الآخر إن كان مسؤولا في مؤسسة رسمية.
لن تنجو البحرين وبقية دول الخليج التي تؤمن شرائح من مواطنيها بفكر ولاية الفقيه من تكرار أزماتها، ما لم يخضع هذا الفكر الثيوقراطي الهادم للعلاقة والتعاطي الإيجابي بين المواطن والدولة للتفكيك والتحليل والتمحيص والنقاش الجاد الرصين العلمي العلني.