علي سالم
كاتب ومسرحي مصري. تشمل أعماله 15 كتابا و27 مسرحية أغلبيتها روايات ومسرحيات كوميدية وهجائية، كما نشر تعليقات وآراء سياسية خاصةً بشأن السياسة المصرية والعلاقات بين العالم العربي وإسرائيل
TT

المحرقة وضغط الرأي العام

منذ أيام قرأنا خبرا عن سيدة أحرقت نفسها في المحرقة نفسها التي أحرق فيها جثمان زوجها، وهي عادة قديمة لم تعد تمارس في الهند أو في أي مكان آخر. ذكرني الخبر برواية فولتير «صادق» التي حدثتك عنها من قبل، والتي تدور أحداثها في منطقة الشرق قبل نزول الأديان السماوية الثلاثة. كان صادق يتميز برجاحة العقل، وهو أيضا صاحب قدرات إدارية عالية؛ ولذلك وصل إلى منصب رئيس الوزراء في إحدى الممالك القريبة من الهند. فوجئ صادق بهذا التقليد ليكتشف أنه يطبق فقط بناء على رغبة الزوجة، والمدهش أنه ولا أرملة رفضت أن تحترق. والمستفيد الوحيد من هذا التقليد هم كهنة المدينة الذين يرثونهن طبقا للتقاليد، ولذلك استدعى الزوجة وسألها: من الواضح أنك كنت تحبين زوجك إلى الدرجة التي دفعتك لكي تموتي حرقا بعد غيابه.
أجابت: أنا..؟ أنا أحب زوجي..؟ لم يحدث في حياتي أن كرهت شخصا بقدر ما كرهته.. لقد عشت معه سنوات طويلة وأنا أتمنى في كل لحظة أن يموت.
- لماذا إذن تريدين أن تموتي معه هذا الميتة الشنعاء..؟
- كلام الناس.. التقاليد.. هم يحتقرون المرأة التي تعيش بعد موت زوجها.. والكهنة يعظونهم بذلك ليلا ونهارا.
- يعني أنت في حقيقة الأمر لا تريدين الموت احتراقا.. وكما أرى فأنت سيدة جميلة من حقك أن تعيشي وأن تتزوجي من شاب يحبك وتحبينه.
- يا ريت..
- خلاص.. كوني قوية واسحبي موافقتك وأعلني رغبتك في الحياة..
- ماذا سيقولون عني..؟ لن أسلم من كلام الناس ومن نظراتهم.
- على العكس من ذلك، سيرون فيك نموذجا راقيا ويقدرون شجاعتك.. أنت بذلك تحافظين على كرامة المرأة وحريتها في اتخاذ قرارها.
بعدها استطاع صادق أن يستصدر قانونا يحافظ على هذا التقليد، غير أنه اشترط أنه عندما تعلن أي زوجة رغبتها في الاحتراق مع جثمان زوجها، أن يذهب إليها أحد الشبان ويتكلم معها لعدة ساعات على انفراد ليتأكد أنها اتخذت قرارها بغير ضغوط من أحد. بعد صدور هذا القانون لم يحدث أن أرملة طلبت الموت احتراقا مع جثمان زوجها. الخاسر الوحيد في الحكاية كلها كان كهنة البلاد. بنهاية هذا التقليد خسروا ما كانوا يرثونه عن الضحية. هكذا تحول صادق إلى خطر يهددهم في أكل عيشهم، وبدأوا في الكيد له، غير أنه ترك المملكة ورحل إلى مكان آخر يمارس فيه صدقه الذي يجلب عليه المتاعب.
الخوف من ضغط الرأي العام يدفع الناس في معظم الأحيان إلى اختيارات مهلكة. أعرف بالطبع أن هناك تقاليد وأعرافا لا بد من الحفاظ عليها، غير أنني أتكلم عن المعتقدات الحياتية والسياسية الضارة والخاطئة التي تدفع الإنسان الفرد لإلغاء عقله، وعدم إعلان رغباته الحقيقية وأفكاره التي يؤمن بها خشية الاصطدام بما يسمى الرأي العام.