د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

تونس والحرب المركبة

نظرياً لا أحد يستطيع أن يعلن رفضه للحرب على الفساد، بما في ذلك الفاسدون أنفسهم. لذلك فهي دائماً حرب مرحب بها خاصة عندما تستجيب لنداء فئات شعبية ومدنية عدّة نادت بها.
من جهتها، تونس عاشت الأيام الماضية على وقع ما وصفته الحكومة بمحاربة الفساد والفاسدين، وهي حرب في تقديرنا لن تكون سهلة، ليس فقط لصعوبة هذا النوع من الحروب، بل لأنها ستفرض على الدولة منطقا واضحا قد يتناقض مع بعض توجهاتها ورهاناتها.
أولاً: من المهم التذكير بأن الحكومة الرّاهنة تؤطرها رسميا ما سمي وثيقة قرطاج التي حظيت بتوقيع 9 أحزاب و3 منظمات تونسية. وللتذكير فإن الأولويات التي تم تحديدها لتكون برنامج عمل حكومة الوحدة الوطنية التي نصت عليها وثيقة الاتفاق قد حدّدت بشكل واضح جدا ووردت مرتبة على النّحو التالي: «كسب الحرب على الإرهاب - تسريع نسق النمو والتشغيل (العمل) - مقاومة الفساد وإرساء مقومات الحكومة الرشيدة - التحكم في التوازنات المالية - إرساء سياسة خاصة بالمدن والجماعات المحلية - دعم نجاعة العمل الحكومي واستكمال تركيز المؤسسات).
من هذا المنطلق اعتبر الكثيرون أن الحملة التي شنتها رئاسة الحكومة ضد بعض رجال الأعمال المعروفين إنما تندرج ضمن تدارك الحكومة لأمرها وقيامها بواجبها الذي تقاعست عليه منذ تسلمها الحكم.
ولكن المشكلة أن الخطاب المعلن والمسكوت عنه يبدو غير متماسك ولا يساعدنا في الحسم فيما إذا كنا فعلاً أمام إرادة سياسية، أم إدارة ظرفية لاحتقان تعيشه ولايات عدة، وفي مقدمتها ولاية تطاوين الجنوبية.
فالأسماء التي تم وضعها تحت الإقامة الجبرية حاضرة بقوة في وسائل الإعلام، ومنخرطة بشكل من الأشكال سياسياً وذات وزن اقتصادي، وليس جديدا ترويج تهمة الفساد ضدها، خصوصا أن الحكومة لطالما أعلنت تفويض المعالجة القانونية لملفات الفساد للجهات القضائية مع الرهان على دور هيئة مكافحة الفساد.
السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا فجأة قررت الحكومة التونسية استخدام قانون الطوارئ واعتماد إجراءات إدارية لوضع تحت الإقامة الجبرية رجال أعمال، وذلك بتهمة التآمر ضد أمن الدولة؟
بعض المتدخلين من الحكومة أشاروا إلى أن الاحتجاجات الموجودة في ولاية تطاوين التي رفض المؤطرون لها دعوة الحكومة للتفاوض هي بتحريض وبتمويل من بعض الأسماء التي شملها قرار الوضع تحت الإقامة الجبرية وسط تكتم عن المعلومات والتفاصيل.
إذن السبب المباشر ليس ارتباط هذه الأسماء بالفساد بقدر ما هو علاقتها بالاحتجاجات الساخنة في ولاية تطاوين، وهو ما يفسر الطابع الاستعجالي للتحرك والإيقاف. بمعنى آخر فإن الحكومة استشعرت أن من شملهم قرار الإقامة الجبرية قد أصبحوا أعداء لها يؤججون الاحتجاجات بدعمها ماليا، فكان قرار الإطاحة بهم قبل أن تطيح هذه الاحتجاجات المتصاعدة في وتيرتها بهم. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الحكومة لم تكتف بالسبب المشار إليه فقط، بل هدفت إلى استقطاب الفئات الغاضبة من ترددها في مقاومة الفساد، وتحسين صورة لدى الجميع الذين باتوا لا يرون فيها إلا الضعف والفشل.
طبعاً هناك من ربط بين تصريحات السيد عماد الطرابلسي ابن أخ زوجة الرئيس السابق زين العابدين بن علي مؤخراً في هيئة الكرامة والحقيقة التي وجه فيها أصابع الاتهام إلى رجال أعمال. ونعتقد أن هذا الربط ساذج جدا، ويفتقد إلى القوة في الحجة. ولكن المؤكد أن الحكومة وظفت هذه المسألة للتمويه بحيث يعسر فهم السبب المباشر الحقيقي.
في مقابل ذلك ستجد الحكومة نفسها اليوم بين تحديين: التحدي الأول هو إثبات الإدانة على الذين تم إيقافهم كي تؤكد مصداقيتها، وكي لا تخسر الذين كسبت رضاهم بالحركة التي قامت بها.
أما التحدي الثاني وهو الأكبر فإنه يتمثل في مصير قانون المصالحة الاقتصادية والمالية الذي تتبناه الحكومة ورئاسة الجمهورية. وهو قانون يعرف معارضة سياسية ومدنية وشعبية واسعة جداً، بدليل أنه سبق أن تم سحبه من مجلس النواب مرتين من حكومات سابقة. وحالياً تضع الحكومة كل ثقلها عليه في مواجهة الأزمة الاقتصادية، حيث تريد التعويض المالي التنموي مقابل المصالحة. وإذا كانت الحكومة منتبهة جدا إلى الخطاب الذي استعملته بقوة خلال الأيام الأخيرة لدى القبض على بعض الرجال الأعمال، سترى أنها التزمت بمحاربة الفساد وتجاوز الهياكل التي وصفتها بالبطيء. بمعنى آخر تحركات الحكومة منطقياً تلزمها بالتضحية بقانون المصالحة الاقتصادية والمالية.
وأغلب الظن أن هذه التضحية شبه مستحيلة، ومن ثمة فإن تمسكها بالقانون المشار إليه سيجعلها محل شك، ولن يعالج مشكلتها مع المعارضين لها.
فهل درست الحكومة التونسية هذه التحديات أم أن عنوان الحملة ضد الفساد كان رد فعل ضد احتجاجات مدعومة لا أكثر ولا أقل؟