وليد بن نايف السديري
أكاديمي سعودي
TT

كيف ستكون رئاسة ترمب؟

بعكس ما قد يتصوره البعض، فإن السياسة هي أضعف جوانب الولايات المتحدة. ويُعَد تقلب السياسة الخارجية الأميركية أحد أبرز مظاهر هذا الضعف. فهي تتذبذب بفعل تغير الرؤساء وتجاذبات القوى الحزبية والسياسية وانعكاسات السياسات المتبعة على الداخل الأميركي. وقد شهدنا كيف أن تنمر سياسة بوش الابن واندفاعها، أعقبهما تردد وتراجع سياسة أوباما؛ وكلتا السياستين كلفت أميركا والعالم كثيرًا.
وبرئاسة دونالد ترمب نستقبل مرحلة سياسية جديدة «مجهولة». فوصوله إلى الرئاسة بشخصيته غير التقليدية يمثل ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ السياسي الأميركي. فهو قادم للسياسة بخبرة وشخصية وأسلوب غير معهودة، ومثيرة للجدل.
فخبرته السياسية محدودة - إن لم تكن معدومة - حيث لم يشغل أي منصب عام، وقضى حياته العملية في قطاع الأعمال يدير شركته الخاصة، وقدم برامج تلفزيونية أعطته شهرة إعلامية. وشخصيته تميل للبروز والحدية ومظهر الشخصية القيادية والحاسمة. وأسلوبه يميل للاستعراض والإثارة والتشدد مع الآراء المعارضة والخصوم.
انعكست هذه الأبعاد بوضوح في أدائه خلال الانتخابات، وأثارت حفيظة الكثيرين داخل أميركا، وقلق حلفائها في الخارج.
فترمب خاض الانتخابات بشعار «لنجعل أميركا عظمى مرة أخرى»، مقدمًا نفسه كمرشح معارض للمؤسسة السياسية الرسمية، وركزت أجندته على أن وضع الاقتصاد والعامل الأميركي سيئ بفعل عدم كفاءة وتجاهل واشنطن (أي السياسيون والمؤسسة الرسمية) وعدم عدالة الاتفاقيات الاقتصادية واستغلال بعض الدول لها، داعيًا إلى «إعادة واشنطن للشعب الأميركي» ومراجعة تلك الاتفاقيات. كما صرح بمواقف متطرفة حيال الهجرة والمسلمين و«الإرهاب». وجاء ذلك بطرح عام وشعبوي وإثارة - أَمَّنَ له تغطية إعلامية وانتشارا بأقل التكاليف - واستهدف الأميركي الأبيض والطبقة الوسطى المحافظة وقوى اليمين المتشدد.
وما تقدم لا يعني الاستهانة بقدرات ترمب، فهو رجل أعمال وشخصية مشهورة، تفوق على منافسيه، وحقق انتصارًا غير متوقع أوصله للرئاسة؛ وإنما السؤال هنا هو عن مدى مناسبة هذه القدرات للنجاح في عمله السياسي كرئيس للدولة العظمي، وكيف ستنعكس خبرته وشخصيته وأسلوبه على أدائه السياسي، وعلى سياسته الخارجية، وعلى القضايا العالمية والعلاقات الدولية بالتبعية.
والجواب باختصار، لن تؤهله قدراته في الانتخابات للنجاح كرئيس. فهو لن يستطيع إدارة الرئاسة بعقلية وخبرة إدارته لشركته الخاصة؛ فالرئيس يعمل في إطار مؤسساتي وقانوني ونظام سياسي معقد قائم على التوازنات، ويتطلب المشاركة في الحكم وتقديم التنازلات لتحقيق التوافق المطلوب لاتخاذ القرارات ورسم السياسات، وهي بيئة تختلف كليًا عمن يتحكم في ملكه وأعماله وقراراتها. كما أن نجاح الرئاسة يحتاج شخصية قيادية مرنة وقادرة على تحقيق التوافق والتوازنات المطلوبة لإنجاز العمل، وهو أمر صعب على شخصية ترمب التسلطية. وكذلك فإن الرئاسة تتطلب أسلوبًا عقلانيًا ومتزنًا في الطرح يراعي تعقيد المصالح ويجمع ولا يفرق، وهو مطلب مناقض لأسلوب ترمب الصاخب.
والرئيس ترمب أصبح في قلب المؤسسة السياسية الرسمية (سواء الأميركية أو حتى العالمية)، وكلماته وقراراته لها تداعياتها، ولن يستطيع لعب دور المعارض لها، وعليه أن يتعامل معها بحنكة، ويتكيف مع وضعه الجديد إذا أراد النجاح في عمله.
فهل الرئيس ترمب يملك المرونة اللازمة لتعديل نهجه وإجراء التحولات المطلوبة للنجاح كرئيس للدولة العظمي؟
صحيح أن الوقت ما زال مبكرًا للحكم على ذلك، إلا أنه في حالة الرئيس ترمب الاحتمال كبير - للأسف - أن «يغلب الطبع التطبع»، وأن تتأثر سياسته بذات النهج المثير للجدل. وبوادر ذلك ظهرت جلية في قراراته الرئاسية الأولى.
والمتوقع - في المحصلة - أن تتصف فترة رئاسة ترمب بالملامح التالية:
أولاً، ستكون رئاسته ضعيفة عمليًا، لوجود قوى نافذة تعارضها (بما فيها قيادات الحزب الجمهوري ومجتمع الاستخبارات والإعلام وفئات عريضة من المجتمع كالنساء) ولافتقادها القدرة على الاحتواء وتحقيق التوافق المطلوب في الرئاسة؛ وستزيد العواقب السياسية لقرارات ترمب من حدة هذه المعارضة، كما ستفقده جزءا من جمهوره (خاصة أنه لا يملك قاعدة شعبية متماسكة وثابتة).
ثانيًا، ستنشغل رئاسته بـ«الأزمات» و«المعارك الإعلامية»، سواء التي يثيرها بتصريحاته وقراراته، أو التي يدفع بها معارضوه؛ وستميل أيضًا إلى «الإدارة بالأزمات» داخليًا وخارجيًا لتخفيف الضغط عليها.
ثالثًا، ستكرس رئاسته الاستقطاب والانقسام المجتمعي والسياسي الأميركي.
رابعًا، ستكون سياسته الخارجية «انتقائية» وتراوح بين التدخل والانكفاء؛ وهو ما سيفاقم تدهور المصداقية والثقة بسياسة أميركا الخارجية وبدورها القيادي. وللأسف، سيؤثر هذا سلبا على الاستقرار والتعاون الدولي.
خامسًا، سيركز على الاقتصاد (الذي يتصور معرفته به)، ولكن وفق منظور «مصلحة أميركا أولاً» وهذا يتناقض مع علاقات المصالح، ويؤدي إلى تصاعد الخلافات التجارية والاقتصادية الدولية.
سادسًا، تضل احتمالات عزل الرئيس ترمب (impeachment) واردة، رغم صعوبة تحقق متطلبات ذلك دستوريا، لكن معارضيه أقوياء، ولن يعيقهم إيجاد المبررات ضده. ويمكن المجادلة بأن احتمالات عزله وتولي نائبه الرئاسة هي الأكبر في تاريخ الإدارات الأميركية.
وبناءً عليه، فعلى العالم أن يتهيأ لما سيحدث. وعلينا مراقبة عدة مؤشرات لقياس مدى سير الأمور بهذا الاتجاه، أبرزها: هل يتغير أسلوبه؟ ما هي طبيعة قراراته وسياساته وتداعياتها؟ هل يتوافق مع قيادات الحزب الجمهوري ومجتمع الاستخبارات؟ هل يتغير موقف الإعلام منه؟ هل تتوسع دائرة معارضيه أم مؤيديه؟
ولكننا نتمنى خلاف ما نتوقع، وأن يمر «منحنى تعلم» الرئيس ترمب بوقت قصير وتكاليف محدودة على أميركا والعالم، وأن تنجح إدارته في لعب الدور القيادي المطلوب من القوة العظمي لتحقيق الاستقرار والتعاون والرخاء العالمي.
وأميركا دولة عظمى ذات إمكانات هائلة، إلا أن هذا لا يعني سلامة سياساتها، فهي ترتكب أخطاء فادحة، وسياستها في منطقتنا تشهد بذلك؛ وإنما يميزها قدرتها العالية على تحمل تكاليف أخطائها، والتكيف والاستمرار أيًا كانت إخفاقاتها. فهي تدفن الأخطاء، وتصنع أخطاء، وتستمر بالسير. واليوم تعقد العالم وتشابك، وأصبحت تكاليف خطأ السياسات باهظة على العالم وأميركا نفسها. وختامًا، يؤكد المفكر السياسي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي «إن أخطر تهديد لأميركا، ليس النزاعات المتعددة في العالم، بل شلل نظامها السياسي». وتمثل رئاسة ترمب مشهدًا جديدًا ومثيرًا لهذا الخلل.

* أكاديمي سعودي