شارل جبور
TT

التوازن اللبناني والوزن المسيحي

قام لبنان على توازن مسيحي - إسلامي دقيق، وأثبتت التجارب أنه في اللحظة التي كان يختل فيها هذا التوازن، كان ينزلق لبنان إلى متاهات وحروب وعدم استقرار، والأمثلة أكثر من أن تعدّ أو تحصى، بل أظهرت التجربة أيضاً أنه بقدر ما يفقد المسيحي وزنه السياسي، بقدر ما تفقد الدولة حضورها، وبقدر ما يستعيد وزنه بقدر ما تستعيد حضورها.
فالاحتلال السوري للبنان لم يمُّر إلا بعد كسر النظام السوري للإرادة المسيحية، و«حزب الله» لم يتوسع دوره إلا في غياب الدور المسيحي، وكل المحاولات الصادقة التي قام بها «المستقبل» بعد العام 2005 لاستعادة السيادة والاستقلال لم تؤت ثمارها لأسباب منها أن دور المكون المسيحي كان هامشيًا، حيث إنه في المفترقات الأساسية من قبيل التسويات وغيرها كان يتم تجاوزه.
وعلى رغم أن الانقسام كان بين محوري 8 و14 آذار، إلا أن الانقسام الفعلي كان بين «المستقبل» و«حزب الله» لسببين؛ الأول لأن الحزب يملك السلاح ولا يقبل شريكًا في القضايا الاستراتيجية، والثاني لأن «المستقبل» كان يتفرد في اتخاذ القرارات، ولم يسهِّل للمكونات المسيحية الحليفة له استعادة دورها داخل السلطة، والذي انتزع منها انتزاعا من قبل النظام السوري.
فالنظام السوري لم يُضعف المكون المسيحي إبان احتلاله للبنان عن عبث، بل من أجل إدامة احتلاله، لأن هذا المكون شكل تاريخيًا رأس حربة في الدفاع عن السيادة اللبنانية ومواجهة هذا النظام عسكريًا قبل العام 1990 وسياسيًا بعد هذا التاريخ، ولولا الممانعة المسيحية وتصدُّر البطريرك الماروني السابق مار نصر الله بطرس صفير المواجهة مع هذا النظام، لما تبلورت إرادة وطنية ودفعت باتجاه إخراج الجيش السوري من لبنان.
والدور المسيحي الذي يعيد إلى لبنان توازنه، لا يمكن أن يترجم خارج السلطة، وإلا تحوّل إلى دور وهمي وشكلي وتنظيري، وأكبر دليل ان الرئيس الراحل رفيق الحريري لم يبرز دوره خارج السلطة بل داخلها، وان كل هدف النظام السوري كان إضعاف المسيحيين النخبة وإبعادهم عن السلطة.
وإذا كان من مصلحة «حزب الله» إبقاء المكون المسيحي ضعيفًا من أجل إبقاء الدولة ضعيفة، بما يتيح له مواصلة مشروعه خارج الدولة والوطن، فأين مصلحة تيار المستقبل بذلك باستثناء المصلحة السلطوية التي أتاحت له اقتطاع حصة من التمثيل المسيحي، وحولّته إلى تيار عابر للطوائف في خطابه لا تمثيله، ولكن هذا الجانب المصلحي لم ينجح في تحقيق السيادة ولا حضور الدولة، وبالتالي هذا التيار مدعو إلى مراجعة جدية في هذا الخصوص، فيما المدخل الأساس لاستقرار لبنان يكمن في عاملين:
العامل الأول محلي، حيث إن المعادلة واضحة لجهة أن المكون الشيعي لن يقبل بغلبة سنية، فيما التوازن السني - الشيعي لم يُنتج دولة في لبنان، وبالتالي الضمانة الوحيدة لمنع الغلبة المذهبية، وإعادة الاعتبار لمشروع الدولة تكمن في استعادة المكون المسيحي وزنه السياسي الرئاسي والنيابي والوزاري والإداري. فالوزن المسيحي الذي تم تغييبه قسرا يشكل ضمانة داخلية أولا، وهو كفيل ثانيًا بأن يعيد تدريجيًا الاعتبار لعنوان الدولة، وخلاف ذلك يعني استمرار لبنان في دوامة أزماته المتدحرجة.
العامل الثاني إقليمي، ويتمثل بتخلي إيران عن دورها السلبي في المنطقة، وهذا التطور لن يتحقق إلا بعد ان تدرك طهران عجزها عن تحقيق مشروعها الإقليمي وارتداده سلبًا عليها، ولا شك ان المواجهة التي تقودها السعودية دفاعًا عن السيادة والقرار العربيين، كفيلة بدفع إيران إلى تعديل دورها من سلبي إلى إيجابي.
ويبقى أخيرًا أن الدور المسيحي يشكل مصلحة سنية - شيعية مشتركة ليس في لبنان فقط، إنما على مستوى المنطقة برمتها.