ربما لا يوجد أكثر دقة عند تحليل القرارات السياسية من التفاعلات الاقتصادية؛ فما إن أعلنت موسكو عن عزمها الانسحاب من سوريا، حتى تهاوت الليرة السورية منخفضة 20 في المائة، وهو ما يفسر بشكل واضح أكثر المتضررين من القرار الروسي. لا يهم لماذا قررت موسكو ذلك فجأة، وهي التي وصفت تدخلها قبل أشهر بـ«الحرب المقدسة»، لا يهم إن كان انسحابًا حقيقيًا أم تكتيكيًا، المهم جدًا أن موسكو وجهت ضربة غير مسبوقة لنظام الأسد لم تفعل مثلها منذ قررت المغامرة والتحالف مع النظام ضد شعبه، أما فعالية هذه الضربة وتأثيرها وتبعاتها فستظهر جليًا عندما تدور رحى مفاوضات جنيف. صحيح أن الروس دعموا حليفهم الأسد كما لم يدعمه أحد، وصحيح أيضًا أنهم شركاء في كل ما اقترفه من جرائم، وصحيح أنهم زعموا محاربة الإرهاب لنفاجأ أن الهدف هو المعارضة المعتدلة بينما الإرهابيون الحقيقيون يسرحون ويمرحون، إلا أن موسكو لن تثقل كاهلها بتعقيدات أزمة مرت خمس سنوات عليها، ويمكن أن تستمر خمس سنوات أخرى، فالروس في نهاية الأمر يرغبون أن يكون هناك حل ينهي هذه القضية الشائكة، وحتى لو كانت رؤيتهم للحل تختلف عن رؤية المعارضة السورية، فإنها في نفس الوقت تختلف عن رؤية النظام، خاصة بعد أن نسي الأخير أنه لا يملك من قراره شيئًا، وتصرف كأنه دولة حقيقية وليست كرتونية لا تحكم في واقع الأمر إلا ربع الدولة السورية، وذلك في تصريحات وليد المعلم الأخيرة عن العملية السياسية، حيث صعق فيها صديقه الدب الروسي أكثر من خصومه.
الخبر الجيد هنا أن موسكو بدأت تصحيح خطأ كارثي ارتكبته قبل ستة أشهر بتدخلها غير المبرر في الأزمة السورية، فالوقائع على الأرض تقول إن التدخل الروسي لم يحقق أي نتائج حقيقية ملموسة، حتى يمكن القول إن الانسحاب تم بعد تحقيقها أو على الأقل جزء منها. وبحسب الأرقام، فإن موسكو قد تحتاج إلى 30 عامًا حتى تنجح في إبقاء نظام الأسد على قيد الحياة إذا استمرت العمليات بوتيرتها الحالية، فعندما تدخلت موسكو كانت تتوقع، وهي توجه ضرباتها إلى مقاتلي المعارضة المعتدلة لا الجماعات الإرهابية، أنها ستقلب الموازين على الأرض، غير أنها فشلت تمامًا في ذلك وخيب الميدان ظن الرئيس فلاديمير بوتين، الذي كان قد صرح في وقت سابق بأن الهدف من التدخل هو هزيمة تنظيم داعش. غني عن القول إن هذا الهدف لم يتحقق ولا بنسبة واحد في المائة، في حين أن الأسد وزمرته قرأوا التدخل العسكري الروسي بشكل خاطئ كليًا، باعتباره مسلمًا به وسيستمر إلى ما لا نهاية وسيغير من قواعد اللعبة سريعًا ودون أن تكون له كلفة يجب أن يدفعها النظام، وغاب عنهم أن هناك اعتبارات اقتصادية وجيوسياسية تمنع موسكو من القيام بالمهمة بدلاً من نظام بلغ منه الغرور عتيًا إلى حد إلغاء العملية السياسية برمتها وكأنه يتحكم بزمام الأمور، وهو ما لم تفكر حتى موسكو في القيام به.
الأكيد أن الأنظار ستكون موجهة لمفاوضات جنيف، طبعًا لن تكون باتجاه وفد المعارضة، الذي غالبًا ما كان يتصدر المشهد، فالحال انقلب جذريًا، وتمكنت المعارضة من ضبط إيقاع التفاوض لصالحها وإحراج النظام مرة تلو الأخرى. العالم سيراقب وفد النظام لمعرفة تفسيرات الخطوة الروسية المذهلة أخيرًا. القرار صدر في روسيا وتفسيراته بدقة ستترجم في جنيف. من يدري ربما يكون وزير الخارجية الأميركي جون كيري محقًا، أخيرًا، في وصف المرحلة الحالية بأنها أفضل فرصة منذ سنوات لتحقيق السلام في سوريا.
8:2 دقيقه
TT
هل انتهت الحرب الروسية «المقدسة»؟!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة