كان البروفسور جوزيف ناي المقرب من كارتر وكلينتون والتيار الأميركي المستنير، قد بلور هذا المصطلح عام 1990. وقد فعل ذلك رد فعل على البروفسور بول كيندي صاحب النظرية الشهيرة عن صعود الحضارات وأفولها. ومعلوم أن كيندي تنبأ عام 1987 بانحدار القوة العظمى الأميركية بعد طول هيمنة على العالم. ولكن لسوء حظه، فإن كتابه صدر قبل سنتين فقط من سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي وظهور أميركا بوصفها قوة عظمى وحيدة في العالم. وبالتالي، راحوا يتندرون به وبأطروحته المتشائمة التي كذبتها حركة التاريخ بشكل صارخ.
ولكن ينبغي ألا نستهين بكتاب كيندي وأطروحته المركزية عن فلسفة التاريخ، الذي صدر في أكثر من 700 صفحة وشمل كل تاريخ القوى العظمى منذ عام 1500 وحتى عام 2000، أي طيلة خمسة قرون.. ففيه تحليلات ثاقبة لا تنكر. ويبدو أنه ترجم إلى 23 لغة عالمية، كانت العربية إحداها. كيف رد عليه جوزيف ناي؟ ما محاجته؟ قال له بأن قوة الأمم لا تقاس فقط بضخامة جيوشها وقدراتها العسكرية الضاربة ولا حتى باقتصادها، على الرغم من أهمية كل ذلك، وإنما بإشعاعها الثقافي والحضاري أيضا. وبالتالي، فهناك القوة الخشنة والقوة الناعمة. وهذه الأخيرة ينبغي عدم الاستهانة بها أو إهمالها كما فعل بول كيندي.. فالقوة الناعمة قد تدفع بالآخرين إلى الإعجاب بك وتقليدك وربما الخضوع لك حتى دون أن ترفع صوتك؛ أي دون أن تضطر إلى استخدام العصا الغليظة لإجبارهم على ذلك. ينبغي العلم بأن الولايات المتحدة تمتلك قوة جذب ثقافية وسينمائية وفنية لا تضاهى.. السينما الأميركية تهيمن على العالم، وكذلك اللغة الإنجليزية، إلى درجة أن الفرنسيين مرعوبون. يضاف إلى ذلك أن جامعاتها من أفضل جامعات العالم وأكثرها شهرة، والدليل على ذلك أن معظم جوائز «نوبل» في الطب والفيزياء والكيمياء وسواها، تذهب إلى باحثيها عادة كل عام. وبالتالي، فلا يمكن الاستهانة بالقوة الناعمة على الإطلاق.
في الواقع إن نظرية جوزيف ناي ليست حديثة العهد، وإنما قديمة قدم التاريخ إذا جاز التعبير.. ألَم يكن العرب في العصر الذهبي يمتلكون القوة الناعمة الأولى في العالم؛ أي قوة الإشعاع الثقافي والحضاري؟ ألم يكن الآخرون ينظرون إلى بغداد وقرطبة بصفتهما أعظم مدينتين في العالم، تماما كما ننظر الآن إلى باريس ولندن ونيويورك؟ ولكن العرب فقدوا هذا الإشعاع بعد الدخول في عصر الانحطاط وأفول العصر الذهبي كما هو معلوم، وحتى الآن لم يستطيعوا استرجاع مكانتهم على مسرح التاريخ ما عدا استثناءات نادرة. وفي رأيي الشخصي، لن يستطيعوا إلا إذا حصل تغيير في أعماقهم.. إلا إذا تغلبت لديهم القوى الصاعدة على القوى الهابطة، وهذا شيء صعب جدا ونادر الحصول. لكي يسترجع العرب مكانتهم السابقة ينبغي أن ينبثق فيهم.. في حناياهم.. في أعماق أعماقهم، نور وهاج يضيء ظلماتهم الداخلية. من يستطيع أن يضيء الظلمات الداخلية للعرب ولمليار ونصف المليار مسلم من ورائهم؟ هذا أكبر سؤال مطروح على العالم اليوم. إذا كنت أنا عاجزا عن إضاءة ظلماتي الداخلية، فما بالك بالعرب ككل؟ إنها لمعجزة حقيقية.. فهل لا نزال في عصر المعجزات يا ترى؟
مع ذلك، لا أفقد الأمل وأظل مصرا على القول بأن فلسفة التاريخ العربي لم تقل كلمتها الأخيرة بعد.. أقصد بذلك أن العرب لن يمتلكوا ناصية التاريخ مجددا، أو قل لن يدخلوا التاريخ مجددا، إلا بعد أن تنتصر لديهم القوى العقلانية الحضارية على القوى الارتكاسية الظلامية؛ بمعنى آخر، فإن ما يدعى «الإسلام السياسي» مدعو للانحسار كأي موجة تصعد ثم تهبط.. لقد أكل وقته واستعرض عضلاته بما فيه الكفاية، ورأينا النتيجة الكارثية، حيث تشوهت صورتنا على مدار العالم كله.
وبهذا الصدد، أدعو جميع المذاهب والفئات إلى الابتعاد عن المخططات الخارجية الهادفة إلى الإيقاع بهم واستخدامهم حطبا لمصالحها الذاتية.. ينبغي أن تتغلب لديهم العاطفة القومية الواسعة على العاطفة المذهبية الضيقة. أقول ذلك خاصة أن الخلاف العقائدي بين مختلف الأطراف ليس كبيرا إلى الحد الذي نتصوره.. إنه ليس ذلك البعبع الذي خوفونا به وضخموه لنا بسبب عصور الجهل والظلام، فما يجمع بيننا أكبر بكثير مما يفرق.. يجمع بيننا الكتاب نفسه، والنبي نفسه، واللغة نفسها، والأدب العربي نفسه بشعره ونثره منذ الجاهلية وحتى اليوم.. ألا يكفيكم ذلك؟ علاوة على هذا، فإن المشكلة المذهبية ستنحل من تلقاء ذاتها عندما تشرق شمس الأنوار الفلسفية على العالم العربي. وقل الأمر ذاته عن المشكلة الطائفية بين المسيحيين العرب والمسلمين العرب.
المستقبل للفضاء العربي الحضاري الواسع الذي تتسع أحضانه للجميع من دون استثناء ومن دون أي نبذ أو إقصاء. وبالتالي، فأنا متفائل بحركة التاريخ على الرغم من كل شيء، فالعرب قادمون بلا ريب، ولكن بعد أن يمروا بأتون المعاناة ويحترقوا بالعذابات ويدفعوا الثمن باهظا.. وهذا ما يحصل الآن.
لكن لنعد إلى الإشكالية الأساسية ولنطرح هذا السؤال: لماذا فشلت كل محاولات النهوض العربي حتى الآن؟ لأنه من الصعب أن تنهض بعد أن تكون قد «انبطحت» لمدة سبعة أو ثمانية قرون متواصلة، ولأنه كلما حاولنا النهوض، جذبتنا القوى الارتكاسية إلى الوراء: قوى التكفير والظلام ومحاكم التفتيش التي انتهت في العالم المتحضر منذ قرون! وبالتالي، فلكي نستعيد نحن العرب مكانتنا على مسرح التاريخ، ينبغي أن نخرج من انغلاقاتنا المزمنة وكهوفنا المظلمة التي ترعب الآخرين.. كل الآخرين. حتى الآن لم يظهر أي تفسير مضيء للعقيدة.. حتى الآن لم ينبثق نور وهاج في قلب العرب!
8:37 دقيقه
TT
قضايا فلسفية أم هموم عربية؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة