حسن الصفار
TT

مجتمعاتنا وما يصرفها عن إنتاج العلم

جاء التصميم الإلهي لخلق الإنسان بالشكل الذي يؤهله للقيام بوظيفته ودوره في هذا الكون، فقد خلقه الله تعالى لإعمار الأرض، كما تقول الآية الكريمة:«هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»، أي أراد منكم عمارتها.
وقد منح الله تعالى الإنسان ما يؤهله لذلك وهي القدرات العقلية، كالتفكير والملاحظة والاستنتاج، والقدرات النفسية كالإرادة والطموح والتحمّل.
ويحرك الإنسانَ لتفعيل قدراته عاملان: عامل الحاجة والتحدي للظروف الطبيعية التي يواجهها في هذه الحياة، وعامل الفضول الذي أودعه الله في أعماقه ليتساءل عما حوله، ويبحث عما وراء الظواهر التي يشاهدها في عالم الوجود.
هذا الفضول أو الرغبة في المعرفة هو الذي يستفزّ عقل الإنسان ليتساءل ويبحث ويسجّل الملاحظات، ويضع الاحتمالات، ومن ثم ينتج النظريات، ويقوم بالتجارب، ليحقق الاكتشافات، ويصنع الإنجازات.
وكما يشير أحد الباحثين فإن ذلك الفضول العلمي هو الذي كان يملأ وجدان دارون حين التحق سنة 1831م بالباخرة الاستكشافية التي دارت حول الأرض في خمس سنين، وعمره يومئذ اثنان وعشرون عامًا، وراح يلاحظ الكائنات الحيّة في القارات والجزر والبحار، ويقارن بينها بشغف، حتى وضع نظرياته في أصل الأنواع، وفي النشوء والارتقاء، والانتخاب الطبيعي، فحرّك بها ساكن المعرفة على هذا الصعيد، وأصبحت محل أخذ وردّ.
وهو ذات الدافع الذي حرّك العالِم الهولندي ليفون هوك، ليرى الكائنات الأصغر مما تراه العين المجردة، فانهمك في تطوير العدسات وتكثيف التجارب عليها لعدد من السنين، حتى اكتشف عام 1674م من خلال عدساته الكائنات الدقيقة التي سميناها الجراثيم.
ونجد مثل ذلك في مسيرة العالِم الإيطالي غاليلو، الذي ألحّت على ذهنه التساؤلات حول علاقة الأفلاك والأجرام بعضها ببعض، وقام بعملٍ وجهدٍ دؤوبين لتطوير تلسكوب قاده إلى كثير من الملاحظات والاكتشافات الفلكية [إبراهيم كشت. جريدة «الرأي» الكويتية. 16 يناير (كانون الثاني) 2013م].
هذه القدرات والميول التي تدفع الإنسان للاكتشاف والاختراع، تحتاج إلى تنمية ورعاية واهتمام، من قِبَل الفرد ذاته، ومن خلال البيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها. أما حين يتجاهل الفرد ما تنطوي عليه نفسه من قدرات واستعدادات، أو حين يعيش ضمن بيئة تفتقد الأجواء المشجّعة، فإنه لن يسلك هذا الطريق. وهذا هو سر التفاوت بين مجتمعات تنجب المبدعين والمخترعين وتنتج العلم والمعرفة، ومجتمعات تعيش التخلف والركود.
إن الهدف الأساسي للدين الإلهي هو إثارة عقل الإنسان، واستنهاض قدراته وطاقاته، ليتأمل في ذاته، ويستكشف الكون من حوله، ويدرس الطبيعة التي تحتضنه، وبذلك يعرف عظمة القدرة التي أنشأت الكون والحياة، ويدرك مهمته في الوجود، المتمثلة في الخضوع لله وإعمار الأرض، عن طريق العلم والمعرفة، والعمل والحركة.
لذا نجد معظم آيات القرآن الكريم تدعو إلى التفكير والنظر والتعقل، يقول تعالى:
* «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ».
* «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ».
* «أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ 17 وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ 18 وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ 19 وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ».
وحين استجابت الأمة الإسلامية لنداء مثل هذه الآيات القرآنية، أصبحت أمة رائدة على مستوى الحضارة والإنتاج العلمي، وبرز فيها العلماء المبدعون، الذين انفتحوا على تجارب الأمم الأخرى، واستوعبوها وطوروها، وأضافوا باكتشافاتهم واختراعاتهم مكاسب جديدة، ومنجزات عظيمة، في مسيرة العلم والحضارة الإنسانية.
هكذا كانت الأمة في ماضيها الزاهر، أما واقع الأمة في الزمن الحاضر فهو على العكس من ذلك تمامًا، إذ تفصلها عن ركب الحضارة مسافة بعيدة، ولا يكاد يذكر لها إسهام في مجال العلم والمعرفة. وكأن الأمة قد أدارت ظهرها لمعظم آيات قرآنها المجيد، واكتفت بعدد من الآيات حول العبادة والشعائر الدينية.
إن أبناء مجتمعاتنا لا ينقصهم شيء من المؤهلات الذاتية لنيل المعرفة، ولتحقيق الإبداع والإنجاز العلمي، لكن ما ينقصهم هو البيئة المشجعة والأجواء الدافعة. فمنذ زمن طويل تفتقد مجتمعاتنا الإسلامية الاستقرار السياسي، إذ تخضع للاستبداد، وتتفجر فيها الصراعات السياسية القاتلة، مما يعطي الأولوية لمعارك الصراع، وحرص كل طرف على امتلاك أقوى أدوات المواجهة للطرف الآخر، ويستنزف القدرات والإمكانات الوطنية، وكل ذلك على حساب التنمية، واهتمامات التقدم العلمي. كما لا تزال الاختلافات الدينية تشغل مساحة واسعة من اهتمامات الناس في مجتمعاتنا، رغم مرور الأزمنة والقرون على نشأة هذه المذاهب المختلفة، لكن الجدل والنزاع لا يزال مستعرًا بين أتباعها، يخبو تارة ويتأجج تارة أخرى، بما يستتبعه من إثارة للضغائن والأحقاد، وانقسام في المجتمعات، وتزييف للاهتمامات.
في مثل هذه البيئة المنشغلة بالصراعات السياسية، والاختلافات الدينية، من الطبيعي أن ينحسر الاهتمام بالعلم، وأن لا تتوفر فرص الإبداع والإنجاز المعرفي، ولا حرية التفكير والبحث العلمي.
من ناحية أخرى فإن أبناء مجتمعاتنا يفتقدون الأجواء المشجعة والدافعة لهم للإبداع والإنجاز العلمي، بدءًا من العائلة، التي لا تتعامل مع أبنائها على أساس أنهم مشاريع لعلماء ومبدعين، وغاية ما تطمح إليه العائلة غالبًا هو حصول أبنائها على شهادات تؤمن لهم الوظائف لتسيير حياتهم المادية.
أما التعليم في بلداننا فأبعد ما يكون عن تربية الذهنية العلمية، لأنه يعتمد أسلوب التحفيظ والتلقين، ولا يمتلك معظم المعلمين مؤهلات تنمية مواهب الطلاب، وتعزيز ثقتهم بأنفسهم.
وخلال هذا الأسبوع، أعلن في الرياض عن أسماء الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية، إذ فازت شخصيات عربية بالجائزة في ثلاثة فروع منها، هي: خدمة الإسلام، والدراسات الإسلامية، واللغة العربية. أما في المجال العلمي فقد فاز أستاذان هولنديان بجائزة الطب، وأميركي وبريطاني بجائزة العلوم. وفي جميع الأعوام السابقة كان الفائزون بجائزة الملك فيصل في فروع الطب وعلوم الطبيعة هم من الأجانب، إلا ما ندر.
من هنا، فإن أي اختراق لهذا الركود العلمي السائد في مجتمعاتنا ينبغي استقباله بحفاوة واهتمام.
وقد حمل لنا الأسبوع الماضي خبرًا سعيدًا يثلج الصدر على هذا الصعيد، وهو ما أعلنته وكالة «ناسا» العالمية لعلوم الفضاء من إطلاق اسم أحد أبناء محافظة القطيف الطالب المبتعث عبد الجبار عبد الرزاق الحمود، على الكوكب الجديد الذي تم اكتشافه مؤخرًا، حيث سمي الكوكب باسم «الحمود» تقديرًا لما حققه من نجاح في أبحاثه العلمية. كما تم تكريمه من قبل جائزة «نوبل» في حفلها الأخير المقام في السويد بتاريخ 10 / 12 / 2015م.
وقد استمع كل هؤلاء العلماء إلى البحث الذي قدمه عبد الجبار الحمود، والذي كان بعنوان «استخدام فيروس TRV عن طريق تحرير الجينوم باستخدام نظام CRISPR / Cas9». وقد أثنى على بحثه هذا كبار العلماء من الحضور، إذ اعتبروه بحثًا مثاليًا، وثورة في عالم جينات النبات، وتم تكريمه ومنحه جائزة مقدارها 8000 دولار من قبل المركز.
شارك عبد الجبار الحمود في كثير من المسابقات العلمية أثناء دراسته في المرحلة المتوسطة والثانوية في السعودية، إذ حصل على ميدالية ودرع وجوائز رسمية أخرى في مجال الروبوت، كما وصل إلى المرحلة النهائية في المشاركة بمسابقة بحث نظام الحماية من الحرائق على مستوى المنطقة الشرقية، وحصل على المركز السادس على المستوى المحلي والثالث عربيًا لمشاركته في برنامج ايسك الذي أقيم في قطر.
وكان لبيئته العائلية دور أساس في تشجيع موهبته وطموحه العلمي، فوالده كان يعمل مهندسًا استشاريًا في شركة أرامكو السعودية، ووالدته معلمة، ولاهتمامهما بتربية أبنائهما فإن إخوة عبد الجبار وأخواته جميعًا من ذوي الشهادات العلمية المتقدمة.
وتزامنًا مع هذا الإنجاز الرائع للحمود، حققت إحدى بنات المحافظة إنجازًا علميًا مشابهًا، إذ حصلت الطبيبة المبتعثة بسمات محمد المعلم على جائزة أفضل بحث على مستوى أوروبا في فئة أبحاث طب العيون، مقدمة من منظمة دعم أبحاث أمراض العيون الأوروبية.
يأتي ذلك نظير اكتشافها لطفرات وراثية جديدة تتسبب في إصابة العيون بمرض الرأرأة الخلقي (congenital nystagmus)، وهو شكل من حركات العين اللاإرادية، التي تؤدي إلى خلل الرؤية وضعفها لدى الأطفال، إضافة إلى تقديمها لبحث تفصيلي يسهم في تطوير هذا الاكتشاف والحد منه في محاضرة قدمتها بمؤتمر طب العيون المنعقد في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بمدينة نيس الفرنسية.
وأوضحت الطبيبة المعلم التي تدرس الدكتوراه في تخصص أمراض العيون الجينية بجامعة جنت البلجيكية، أن هذه الدراسة استغرقت مدة عامين، تخللها الفحص الإكلينيكي للحالات المرضية، واستخلاص الحمض النووي، ودراسة الطفرات المسببة للمرض، وتحديد مدى خطورتها، وكيفية الحد منها. وتم نشر هذا البحث في مجلة طب العيون الأميركية «IOVS Journal»، وهي مجلة علمية محكمة، تحتل المرتبة الخامسة عالميًا على مستوى المجلات العلمية في تخصص طب العيون، حسب تصنيف «ISI web of knowledge».
إن ما حققه الحمود وما حققته بسمات المعلم من إنجاز علمي نفخر به، يجب أن يكون دافعًا لأبنائنا وبناتنا نحو الجدّ والاجتهاد في دراستهم، وإقبالهم على العلم والمعرفة بالتثقيف الذاتي، والمشاركة في النشاطات العلمية المحلية والدولية، كما يجب أن يكون محفزًا للعوائل للاهتمام بتعليم أبنائها وبناتها وتنمية مواهبهم وقدراتهم، ليكونوا مشاريع إنجاز وإبداع.
وعلى المجتمع أن يحتفي بالطاقات المبدعة، والكفاءات المتميزة، تقديرًا لها، ولتصبح نماذج اقتداء لأجيالنا الصاعدة. كما لا يفوتنا الإشادة بالمؤسسات الوطنية المهتمة برعاية الموهوبين والمبدعين، كمؤسسة «موهبة»، وجامعة كاوست.
نسأل الله تعالى أن يوفق أبناءنا المبدعين لمواصلة مسيرتهم العلمية وتحقيق مزيد من العطاء والإنجاز، لخدمة وطنهم ومجتمعهم، وخدمة البشرية جمعاء. كما نسأله تعالى لوطننا الرقي والازدهار والأمن والاستقرار.