لطفي فؤاد نعمان
كاتب وباحث سياسي يمني
TT

بين حين وآخر...

استمع إلى المقالة

بين حين وآخر يُنعِش الأستاذ سمير عطا الله الذاكرة العربية بتجديد ذكرى أصدقائه في «وادي الخلان: من ذبحان اليمن إلى تطوان المغرب»، من آخر من ذكرهم كان الأستاذ أحمد محمد نعمان، الأب الروحي للأحرار والعقلاء اليمنيين...

عطا الله، الذي يعيش وسط أجواء أهم المواقف، يتذكر دوماً لـ«الأستاذ» موقفاً متسامياً على جراحه، بعد اغتيال بكره محمد في بيروت، حين التقى بالرئيس سليمان فرنجية، الذي بادر بتعزية الأب في استشهاد ابنه، المعروف باعتباره وزير خارجية ومستشاراً سياسياً سابقاً، فضلاً عن أنه مفكر لامع ومبادر خلّاق، وكونه داعية الجمهورية والوحدة والسلام بين اليمنيين خاصة، والعرب عامة.

قال فرنجية: أعزيك في محمد. هنا يبادله الأب العزاء: لا عزاء في ولدي... العزاء في لبنان الذي فقد أمنه واستقراره.

برغم أهمية معرفة قاتليه، أدرك الأب أن كلفة كشف الحقيقة باهظة على لبنان، الذي لا يملك أن يعاقب مجرماً. فكم من جرائم بحقّ اليمنيين وغيرهم اقترفت، ودماء هدرت. لكنه باستقراء الإهمال والانفلات أنذر المسؤولين اللبنانيين من المصير الذي واجهوه في الحرب الأهلية طيلة 15 سنة. وبقيت «اللبننة» طيلة سنوات حياة النعمان جرس إنذار في كلمات «الأستاذ» ونصوصه ورسائله ووثائقه حول «اليمننة».

في مقاله يوم الأربعاء، 17 - 12 بجريدة «النهار»، أورد «سمير البيان» النص النثري المؤثر للأستاذ النعمان، مكملاً موجز اقتباسه يوم السبت 13 - 12 في «الشرق الأوسط»: «أُحذِّر اليمن من مصيرٍ كمصير لبنان الذي نُكِب بأبنائه أكثر مما نُكب بأعدائه. وقد جاءت الأحداث الأخيرة شاهداً عدلاً على ما حذرنا وأنذرنا، وقلنا إن الشعب الذي لن يرحم نفسه لن يرحمه أحد، ولن يعينه أحد، ولن يساعده أحد»...

تُرى ما كانت «الأحداث الأخيرة» الموحية بذلك النص «النُعماني»؟ إنها أحداث حملات التخريب، التي كانت تقع بين حين وآخر بمناطق شمال اليمن، آخر السبعينات وأول الثمانينات، مدعومة من عناصر حاكمة لجنوب اليمن، بغية فرض وحدة الشطرين بالقوة.. تخيلوا...! وتذكروا من أجل ذلك كم سالت دماء اليمنيين، ومنهم محمد نعمان، الذي تفرق دمه بين تطرف ومزايدة في الجنوب، مقابل تسلط وتخلف في الشمال بغطاء بعثي عراقي لأجير فلسطيني وسط لبنان، الذي كان واحة حرية وديمقراطية تضم من أضنتهم عذابات السياسة في بلدان لم تنعم بما كان في لبنان... إذا بالنعمة تصير نقمة، والواحة ساحة تصفيات!

من المصادفات أن نعمان الابن الذي واجه في الخمسينات التسمية الاستعمارية «الجنوب العربي» بمنشورات وبيانات تؤكد «يمنية الجنوب»، وأن «عدن يمنية بقدر مصرية الإسكندرية، وسورية حلب، ولبنانية صيدا، وفلسطينية القدس»، عاش إلى السبعينات ينادي بوحدة الشطرين، حتى اتحد قرار نافذين في الشطرين بالخلاص منه.

ومن أفظع مفارقات مساعي الجنوب سابقاً إلى فرض الوحدة بالقوة تفجير مكتب رئيس الشمال، أحمد الغشمي، بحقيبة دبلوماسية، يحملها مبعوث جنوبي. ثم بتنسيق وتفاهم بين الشطرين استعادا وحدتهما، إلى أن وقع ما وقع من أحداث وأزمات فرضت القوة كناتج طبيعي للصراع المتفجر، ثم حماية الوحدة برغبة الشعب وممارسة الديمقراطية والمنجزات التنموية... وإذا بين حين وآخر يقع ما يبدد وينسف ذلك كله بمحاولات فرض أمر واقع، ما زالت مستمرة حتى اليوم.

ونتيجة تكرار الوقائع اليمنية بين حين وآخر، نستذكر دعوات التعقل في خضم الجنون؛ ويؤخذ بعين الاعتبار آخر ما صدر من دعوة وازنة إلى خفض التصعيد، من نائب رئيس المؤتمر الشعبي العام، أحمد علي عبد الله صالح.

دعوات التنبه للماضي وتلافي المخاطر والعودة إلى العقل تصدر من عاقل، ويستوعبها كل عاقل. مهما فقد العقلاء من يحبون من أهلهم لا يفقدون عقلهم وأملهم في أن يستجاب لدعواتهم المتكررة. عسى ولعل ثمة من يستجيب.