د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

الحكم الاقتصادي

استمع إلى المقالة

يُستخدم مفهوم «الحكم الاقتصادي» (Economic Statecraft) لوصف الكيفية التي توظف بها الدول التجارة والاستثمار والتمويل، وسلاسل الإمداد، لخدمة أهداف سياسية واستراتيجية أوسع من مجرد تحقيق النمو. ووفق هذا المنظور، يصبح الاقتصاد امتداداً للسياسة، وأحد أكثر أدوات النفوذ فاعلية.

وقد أصدر «المعهد الملكي للشؤون الدولية» المشهور بـ«تشاتام هاوس» مؤخراً، تقريراً عن الصين، محاولاً تفكيك العلاقة بين نفوذها الاقتصادي والسياسي مع دول الجنوب العالمي، ويأتي هذا التقرير ضمن سلسلة من التقارير التي تصدرها مراكز الفكر الغربية في هذا الشأن، فهل حاولت الصين فعلاً استخدام اقتصادها كأداة للنفوذ السياسي؟ وما مدى نجاحها في ذلك؟

لم يكن الصعود الاقتصادي للصين مجرد قصة نجاح؛ بل هو أقرب إلى تجربة متكاملة توضح توظيف القوة الاقتصادية لإعادة موقع الدولة في النظام الدولي، فمنذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، أدركت الصين أن الاقتصاد هو الطريق الأكثر استدامة لتحقيق النفوذ الدولي، بعيداً عن الصدامات العسكرية، ويمكن تقسم رحلة الصين في هذا الشأن إلى ثلاث مراحل حسب رؤسائها الأربعة.

ففي مرحلة الرئيس دنغ شياو بينغ، من نهاية السبعينيات حتى بداية التسعينيات، كان الاقتصاد أداة داخلية بالدرجة الأولى، وركزت الحكومة الصينية آنذاك على جذب الاستثمارات الأجنبية، وفتح الأسواق، وتحقيق نمو سريع، مع تبنِّي سياسة خارجية تتجنب أي صدام سياسي قد يهدد مسار التنمية. وهدفت هذه المرحلة إلى بناء قاعدة اقتصادية صلبة فحسب، دون استخدامها كوسيلة ضغط أو نفوذ خارجي.

وفي مرحلة جيانغ زيمين، وهو جينتاو، من بداية التسعينيات حتى بداية العقد الثاني من الألفية، بدأت الصين تطبيق سياسة «الخروج إلى الخارج» بصورة أوضح. في هذه المرحلة شُجعت الشركات الصينية على الاستثمار في الخارج، وبناء حضور تجاري وصناعي خارج حدود الدولة، وهنا بدأ الاقتصاد يتحول تدريجياً من أداة تنمية داخلية إلى وسيلة لبناء موقع دولي، دون أن يُقدَّم بعد بوصفه أداة نفوذ سياسي صريحة.

وجاءت المرحلة الثالثة مع تولي الرئيس شي جينبينغ مقاليد الحكم عام 2013؛ حيث انتقلت الصين إلى توظيف أكثر تنظيماً وعلنية للقوة الاقتصادية في سياستها الخارجية، ولا سيما مع إطلاق مبادرة «الحزام والطريق»، حينها لم يعد الاقتصاد مجرد داعم للسياسة؛ بل أصبح في صميمها، فغدت شبكات البنية التحتية والاستثمار والتمويل أدوات استراتيجية، تهدف إلى ربط الاقتصادات بالمجال الاقتصادي الصيني؛ خصوصاً في الجنوب العالمي.

وهنا تبرز ورقة «تشاتام هاوس» التي افترضت أن الصين حاولت بالفعل خلال السنوات الماضية استخدام اقتصادها كأداة نفوذ سياسي، ولكنها اصطدمت بحدود هذا الاستخدام في الواقع العملي. وتشير الورقة إلى أن بنية العلاقة الاقتصادية بين الصين ودول الجنوب العالمي اتسمت باختلال واضح، فالصين أصبحت مصدِّراً كثيفاً للسلع المصنعة، بينما تعتمد في وارداتها من هذه الدول على المواد الخام والموارد الأولية، هذا النمط أدَّى إلى فوائض تجارية كبيرة لصالح الصين، حتى بات نحو نصف فائضها التجاري يأتي من الاقتصادات النامية، وبدلاً من أن يُترجم هذا التفوق الاقتصادي إلى قبول سياسي، ولَّد في كثير من الحالات توترات تجارية، وضغوطاً على الصناعات المحلية، وتصاعداً في الإجراءات الحمائية ضد الواردات الصينية.

وتذهب ورقة «تشاتام هاوس» إلى أن الصين -من حيث لا تقصد أحياناً- قوَّضت خطابها السياسي القائم على «التضامن بين دول الجنوب»، ففي أميركا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا، بدأت الصين تُرى لا كشريك تنموي متوازن؛ بل كمنافس صناعي يضغط على الاقتصادات المحلية. وهنا، تحوَّل الاقتصاد من أداة نفوذ إلى مصدر مقاومة سياسية، ما يطرح تساؤلاً جوهرياً حول حدود القوة الاقتصادية في تحقيق الأهداف الجيوسياسية.

وتُظهر الورقة نفسها حجَّة مضادة، فبعض الأدوات الاقتصادية الصينية كانت -في كثير من الحالات– مدفوعة باعتبارات داخلية، مثل تأمين الموارد أو استقرار النمو، أكثر من كونها أدوات ضغط سياسي، ووجود استثمارات أو علاقات تجارية واسعة لا يعني بالضرورة اصطفافاً سياسياً، فالتأثير السياسي يظل دائماً مشروطاً بالسياق المحلي ومواقف النخب وبقدرة الدول المتلقية على التفاوض، وهو ما يعني أن النفوذ الاقتصادي لا يعمل دائماً بالطريقة التي تفترضها الدولة، ولا ينفي ذلك أن الصين استخدمت اقتصادها كأداة نفوذ سياسي بوعي استراتيجي، ولكنه يوضح أنها اكتشفت أن هذه الأداة ليست مضمونة النتائج. فالقوة الاقتصادية مهما بلغ حجمها لا تتحول تلقائياً إلى نفوذ سياسي ما لم تُدِر توازناتها بعناية.

وتخلص الورقة إلى استنتاج لافت، وهو أن النفوذ الذي يمكن للصين تحقيقه في الجنوب العالمي، لن يأتي من مزيد من التصدير أو تراكم للفوائض التجارية؛ بل بتحول داخلي يجعلها مصدراً للطلب، لا مجرد مصنع للعالم، فالقوة الاقتصادية في نهاية المطاف لا تقاس بما تنتجه الدولة؛ بل بما تتيحه للآخرين من فرص ومكاسب. هذا هو استنتاج «تشاتام هاوس» وهو مركز بريطاني للفكر، وهو من دون أدنى شك يقدم وجهة نظر غربية لما يجب أن تكون الصين عليه (لمصلحة الصين). هذا التحليل وإن صحَّت بعض جوانبه، فإنه لا يخلو من التسييس، ويمثل ما تحاول الدول الغربية –وعلى رأسها الولايات المتحدة– فرضه على الصين، وهو فتح الأسواق الصينية لتكون مصدراً للطلب للشركات الأجنبية، بدلاً من استئثار الشركات الصينية بالسوق المحلية.