د. ياسر عبد العزيز
TT

الحظر الذي قد يحبه مناصرو الحريات!

استمع إلى المقالة

في خطوة غير مسبوقة على الصعيد العالمي، اتخذت الحكومة الأسترالية قراراً جريئاً يقضي بمنع الأطفال دون سن السادسة عشرة من إنشاء حسابات على منصات «التواصل الاجتماعي». القرار، الذي صدر في الأسبوع الماضي، لا يمكن فصله عن سياقيه، الزمني والثقافي، إذ يأتي في لحظة بلغت فيها المخاوف من التأثيرات العميقة للعالم الرقمي في الطفولة ذروتها.

فقد بات الفضاء الاتصالي، بما يحمله من إغراءات ومخاطر، جزءاً من الحياة اليومية للأطفال، بل أحد أبرز محددات وعيهم وسلوكهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وهو ما دفع الدولة الأسترالية إلى التدخل بوصفها حارساً أخيراً للحدود الأخلاقية، ومدافعاً عن حقوق الأفراد وسلامتهم.

ولا يبدو أن هذا القرار كان وليد فورة تشريعية طارئة، أو اندفاع سياسي عابر، بل استند إلى تراكم مُقلق لنتائج الدراسات العلمية والإحصاءات، التي أظهرت تصاعد الأضرار النفسية والاجتماعية المرتبطة باستخدام الأطفال والمراهقين لوسائل «التواصل الاجتماعي»، إذ أثبتت بحوث أكاديمية عدة أن الاستخدام الكثيف لهذه المنصات يرتبط بارتفاع معدلات القلق والاكتئاب، واضطرابات النوم، وتدهور تقدير الذات، ولا سيما لدى الفئات العمرية الصغرى.

كما كشفت دراسات أخرى عن أن نسبة كبيرة من المراهقين باتوا متصلين بـ«الشبكات الاجتماعية» بشكل شبه دائم، في نمط استخدام أقرب إلى الإدمان منه إلى التفاعل الطبيعي.

وفي هذا الصدد، تشير إحصاءات المنظمات الأممية المعنية بالحالة الاتصالية العالمية إلى أن الأطفال يشكلون ثلث مستخدمي شبكة «الإنترنت» عالمياً، وتكشف أيضاً عن أن 80 في المائة من المراهقين خصوصاً أقروا بأنهم يعتقدون أن بيئة «الإنترنت» غير آمنة، وحافلة بالجرائم.

ومن أخطر ما أفرزته البيئة الرقمية المعاصرة ظاهرة «التنمر السيبراني»، التي لم تعد مجرد سلوك هامشي، بل تحولت معضلة عابرة للحدود. فآلاف الأطفال حول العالم يتعرضون يومياً للإهانة والتشهير والتهديد عبر الشاشات، في فضاء يفتقر إلى الرادع الفوري، وإلى التعاطف الإنساني المباشر. وقد سجلت دول عدة حوادث مأساوية انتحر فيها أطفال ومراهقون بعد حملات «تنمر إلكتروني» قاسية، ما جعل العلاقة بين «وسائل التواصل» والصحة النفسية، مسألة تتعلق بالحفاظ على الحياة نفسها، لا مجرد نقاش تربوي.

ولا يقف الخطر عند حدود التنمر، بل يمتد إلى «الإدمان الإلكتروني»، الذي يعزل الطفل عن محيطه الطبيعي، ويدفعه إلى الانسحاب من العلاقات الأسرية والاجتماعية، ويضعف صلته بالمدرسة، وبأنشطة الحياة الواقعية. هذا الانغماس المفرط غالباً ما يجري بعيداً عن أعين الأوصياء، في ظل فجوة رقمية ومعرفية تفصل بين الأجيال، وتحد من قدرة الأهل على الإشراف والمتابعة. وفي هذا الفراغ الرقابي، تتسلل أخطار أشد وطأة، من الاستغلال الجنسي عبر «الإنترنت»، إلى تجنيد الأطفال في أنشطة غير قانونية، وصولاً إلى توريطهم في مزالق الجريمة الرقمية.

ومن هذا المنظور، يبدو القرار الأسترالي مفهوماً، ومتمتعاً بذرائع مُعتبرة، حتى وإن بدا صارماً أو صادماً للبعض. فالدولة، حين تتدخل لحماية الطفولة، لا تصادر حرية بقدر ما تعيد ترتيب الأولويات. صحيح أن تطبيق القرار يواجه تحديات تقنية وقانونية، وأن الالتفاف عليه يظل ممكناً في عالم مفتوح بلا حدود، وحافل بأدوات الاختراق، غير أن قيمته الحقيقية تكمن في رمزيته: إنه إعلان واضح بأن الطفولة ليست سلعة، وأن السوق الرقمية ليست فوق المساءلة.

لا ينكر هذا الطرح وجاهة بعض الاعتراضات التي تحيط بالقرار، سواء تلك المتعلقة بحقوق التعبير، أو بمخاوف الإقصاء الرقمي، أو بصعوبة فرض الحظر بشكل كامل. لكن هذه الشكوك - رغم مشروعيتها - لا تلغي الحاجة إلى التجربة، ولا تقلل من أهمية مراقبة نتائجها واستخلاص الدروس منها. فالعالم بأسره يواجه المعضلة ذاتها، ويبحث عن توازن دقيق بين الانفتاح والحماية، وبين الحرية والمسؤولية.

وفي موازاة هذا التوجه التشريعي، تبرز الحاجة إلى حلول أكثر مرونة واستدامة، من بينها تطوير منصات رقمية مخصصة للأطفال، تراعي الخصوصية العمرية، وتفرض شروط استخدام مُنضبطة، وتضمن إشرافاً فعالاً من الأوصياء ومن شركات التكنولوجيا نفسها. فالتغيرات التي طرأت على أنظمة التصنيف العمري، واندماج الأطفال قسراً في فضاءات صُممت للكبار، لا ينبغي أن يكونا ذريعة للتخلي عن الحماية، بل هما حافز لإعادة التفكير في بنية البيئة الاتصالية برمتها.

إن الطفولة، في نهاية المطاف، ليست مرحلة عابرة يمكن التضحية بها على مذبح التطور التقني... إنها أساس المجتمع، وحمايتها مسؤولية أخلاقية جماعية. والقرار الأسترالي، بما له وما عليه، يُذكّر العالم بأن التقدم الحقيقي لا يُقاس بسهولة الاندماج، وسرعة الاتصال، بل بقدرتنا على صون حقوق الإنسان وسلامته، خصوصاً في أكثر مراحله العمرية هشاشة.