لم يحدث على مر تاريخ الإعلام الجماهيري، أن صادفنا مثل تلك العشوائية التي يشهدها نظامنا الإعلامي الراهن. فقد كانت قصة الحضارة العالمية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً -في أغلب مراحلها- بالضبط والتنظيم، وليست بالضخامة ووفرة الموارد؛ لكن ما نحن فيه الآن أصبح ينذر بمخاطر شديدة؛ إذ يحدث التقدم المادي والتكنولوجي باطِّراد، وتزيد العشوائية بالنسبة نفسها.
ومن بين أكثر مصادر السيولة والعشوائية خطورةً في نظامنا الإعلامي العالمي الراهن، أن المنصات الإعلامية الرائجة باتت تخلق نجوماً في تخصُّصات معينة؛ لكن هؤلاء النجوم أضحوا يستفيدون من تمركزهم في عالم الشهرة، وسهولة نفاذ رؤاهم عبر الوسائط؛ لكي يلعبوا أدواراً أكبر من قدراتهم، وخارج إطار كفاءاتهم وتخصصاتهم المفترضة.
ولجعل الفكرة أكثر بساطة، يكفي أن نشير إلى واقعة حدثت في شهر يونيو (حزيران) الفائت؛ حين كان أحد نجوم الكرة العربية يتحدث في قناة فضائية رياضية متخصصة، في حصة استهدفت تحليل مباراة كرة قدم؛ فإذا به يقول نصاً: «إحنا بتوع كله... توعية وتثقيف وتربية... واللي مش عاجبه يطفي (من لا يعجبه فليغلق التلفزيون)».
أراد هذا النجم الرياضي الذي يحظى بشعبية كبيرة داخل بلاده وخارجها، أن يستخدم وضعه بوصفه لاعبَ كرة قدم سابقاً، ومُحللاً رياضياً يحظى بملايين المعجبين؛ لكي يُملي على الناس آراءه، ويشرح لهم الأوضاع السياسية والأمنية المُهمة في المنطقة من منظوره الخاص، قبل أن يصف هذه الآراء والمصالح السياسية الضيقة بأنها «توعية» و«تثقيف» و«تربية»!
وقبل أيام، كانت «السوشيال ميديا» في ليبيا تحفل بكثير من الانتقادات لأحد برامج مسابقات الطبخ، بداعي أن الطبَّاخ الذي يقدم البرنامج أظهر «استحقاقية واستعلاء» ملحوظَين إزاء ضيوف البرنامج من المتسابقين. وكما يقول بعض النقاد على وسائط «التواصل الاجتماعي»، فإنه استخدم ملاحظات «قاسية» في التعليق على أداء المتسابقين، ولم يُظهر الاحترام الكافي لهم.
يحدث هذا بينما ظهرت طبقة جديدة من «المؤثرين» على وسائط «التواصل الاجتماعي» الذين استفادوا من رواج حساباتهم، واكتظاظها بملايين أو مئات الآلاف من المتابعين، لكي يعيدوا صياغة أدوارهم في المجال العام، ويتحوَّل عدد منهم إلى كُتَّاب يصدرون كتباً تتحدث في الشؤون العامة، أو تقدم رؤاهم «الإبداعية»، ويحرصون من خلالها على نقل «تجاربهم» الذاتية، وتعليم الجمهور وتثقيفه، انطلاقاً من «مكانتهم» التي أهَّلتهم للحصول على المتابعة والإعجاب في منصات «السوشيال ميديا».
وبموازاة ذلك، بدأ عدد من كبار الأثرياء ورجال الأعمال البارزين في أكثر من بلد عربي، في توظيف حساباتهم على مواقع «التواصل الاجتماعي» لكي يعلِّقوا على الشؤون العامة، ويتحدثوا في السياسة الدولية، ويقدموا الرؤى والتحليلات والنصائح، من دون أن يوضحوا صلاتهم الموضوعية بالقضايا التي يتصدُّون للإفتاء فيها.
وفي وسط هذا الزحام الذي صنعه قادة الرأي الجدد في المجتمعات العربية، يبرز قطاع من المذيعين الذين اكتسبوا شهرة كبيرة، بسبب تقديمهم البرامج الاجتماعية والسياسية والرياضية، وراحوا يُسخِّرون هذه الشهرة لإعادة إنتاج صورتهم في المجال العام بوصفهم «مفكِّرين»، يطلقون التصريحات، ويجيبون عن التساؤلات، ويشرحون للجمهور الأحداث من وجهة نظرهم الخاصة، بعدما استغنوا عن المصادر ذات الصلة، واكتفوا بما يعرفون أو يعتقدون أنهم يعرفونه.
لقد كان النظام الإعلامي السائد قبل ظهور شبكة «الإنترنت» أكثر موضوعية في ذلك الصدد؛ إذ اتسم هذا النظام بدرجة لافتة من الالتزام بتحديد نطاق الحديث العمومي بالنسبة إلى فئات المتحدثين. وفي هذا النظام لم يكن هناك مجال لتلك السيولة والعشوائية؛ إذ ظل رجال السياسة يتحدثون في السياسة، والطهاة يشرحون مهارات الطهي، والمفكرون يطرحون الأفكار، ولاعبو كرة القدم يتحدثون عن اللعبة التي يعرفونها، ويحللون المباريات.
لكن مع بزوغ عهد «الإنترنت»، وسيادة وسائط «التواصل الاجتماعي»، باتت عملية صنع الرموز وإرساء المكانة يسيرة، وأكثر سهولة من أي وقت مضى؛ إذ ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بمدى النفاذ والشهرة والرواج، بصرف النظر عن المحتوى المقدَّم، أو أهلية المتحدث، أو صلته الموضوعية بما يتحدث عنه.
ولذلك، فقد بات مُستساغاً أن يتحدث «عالم دين» في السياسات السكانية؛ كذلك وجد لاعب كرة القدم الشهير مجالاً لكي يقود الجمهور، ويوضح له الاستراتيجيات الدولية؛ كذلك أصبح الطهاة ومقدِّمو البرامج قادة رأي في مجالات العلاقات الأسرية أو تنشئة الأطفال.
لقد اجتهد علماء كثيرون، على مرِّ عقود؛ لكي يشرحوا لنا أساليب صناعة الرأي العام، وركَّزوا جهودهم في هذا الصدد على مقوِّمات قادة الرأي المُفترَضين، وربطوا بين سويِّة هؤلاء القادة ومسارات الرأي العام ومدى نجاعته؛ لكن هؤلاء المُنظِّرين لم يخطر ببالهم قَط أن تكون عملية صناعة هؤلاء القادة بمثل هذا البؤس الذي باتت عليه الآن.