المقصود بالمشاريع هنا لا صلة له بمجال الأعمال والتجارة والاستثمار. هي عبارة رمزية تعني أن للدول عقائد وتحركات وتصورات وإمكانات مدمجة في صورة عمل وطني كبير يحقق المصالح الأساسية ويُعنى بتطوير القدرات، ويحدد طبيعة العلاقة مع الآخرين. مشروع الدولة ببساطة شديدة هو عقيدتها الفكرية وإطارها السلوكي التي تعمل على هديه في بناء الداخل وتحصينه، والتفاعل مع كل مفردات الخارج لزيادة إيجابياته والتخفيف من سلبياته.
شعار «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، الذي ركز عليه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب في حملته الانتخابية، يجمع ما بين الكلِّي، وهو عظمة أميركا، وبين السياسات والتحركات التي سوف تطبقها إدارة ترمب داخلياً وخارجياً لتحقق عظمة أميركا المستهدفة. في الهند نموذج آخر، يمثله رئيس الوزراء ناريندرا مودي، رئيس حزب «بهاراتيا جانتا» الحاكم منذ عقدين، حيث يرفع شعاراً مجمَلاً «الهند قوة عظمى»، قوامه -كما أبان مودي مرة تلو أخرى- أن الهند أمة هندوسية عظيمة، ذات حضارة وتراث راسخ، ستكون قوة عظمى في الذكرى المئوية لنشأتها عام 2047.
حجم الطموح في هكذا شعار كبير، يستند إلى تطورات وإصلاحات اقتصادية كبرى تحققت خلال العقدين الماضيين بسرعة، ودفعت بالاقتصاد الهندي ليكون الخامس في ترتيب الاقتصادات الدولية بعد كلٍّ من الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا، والمرجح أن تكون الثالثة في اقتصادات العالم بعد كلٍّ من الولايات المتحدة والصين. جاذبية الوضع الاقتصادي لا تتوازى مع طبيعة النظام السياسي القائم، والمُحمَّل بإشكاليات كبرى في مجال التعددية، والضغوط المتزايدة على القضاء والإعلام، وتراجع حقوق الإنسان، وارتفاع حجم البطالة، ومعدل الجوع والفقر المرتفع وفقاً لمقاييس البنك وصندوق النقد الدوليين، ومع ذلك فالطموح يتجلى في الشعار، الذي تُبنى عليه سياسات الحاضر والمستقبل معاً.
في منطقتنا الشرق أوسطية، التي تحتوي على نظامنا الإقليمي العربي، جيران غير عرب بحكم الجغرافيا؛ فلكل من تركيا وإسرائيل وإيران مشاريع إقليمية تحدد التوجهات والحلفاء والأعداء، منها ما هو سلمي توافقي، ومنها ما هو استعلائي تاريخي، ومنها ما هو عدواني وشديد العدوانية تجاه من حوله طامعاً في أراضيهم ومحو تاريخهم ووجودهم إن استطاع، ومنها ما هو محايد يركز على حماية نفسه من دون استفزاز طرف هنا وآخر هناك. وبعض التفصيل يشرح ما تم إجماله. فإيران تُجمل عقيدتها ومشروعها السياسي الإقليمي في الامتداد والتوسع عبر حلفاء محليين يجري تطويعهم ليكونوا وكلاء لآيديولوجية الدولة الإسلامية وعقيدة الوليِّ الفقيه والدفاع عن المنهج الإيراني كلياً. كثير من سياسات التمدد حمل مكاسب وقتية، وعداءات كبرى، ثم جاءت لحظات انقلبت فيها الأمور رأساً على عقب، حيث أصبح للتمدد عواقب خطيرة وأثمان لا تتحملها الدولة الإيرانية، ويرتد الأمر ليصبح مدعاة للانكفاء النسبي على الذات.
الجارة الكبرى تركيا لم تُخفِ مشروعها السياسي الإقليمي في استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية بأساليب بدت فجة تستدعي تاريخاً ما لا يقبل أحد بتكراره، وحين تعذر الأمر واقعياً، بدأ التفكير في ممارسة نوع من التمدد الحذر، وغلبة الجوانب السياسية والاقتصادية بدلاً من العسكرية والعنيفة، عبر مصالحات مع دول الإقليم التي أفشلت التمدد بالأسلوب العثماني. وحالة سوريا واضحة في بيان القيمة الكبرى لامتلاك القيادة المباشرة لحركة الموالين أياً كانت دوافعهم، فقد استثمرت تركيا في جماعات شتى للإسلام السياسي على مدى عقد ونصف، أتاح لها أن تدفع بهم ليعيدوا تشكيل سوريا، دولةً ونظاماً، لا يمكنه أن يتجاهل الدعم التركي ولا مصالح تركيا في الشأن السوري ككل، وأبرزها التخلص من الأكراد وإدارتهم الذاتية وقواتهم العسكرية، بوصف الأمر برمته أحد عناصر الأمن القومي التركي.
التمدد ذو المعاني العثمانية، اكتملت قوته بحركية سياسية نشطة، وتعددية حزبية واضحة وإعلام متعدد، وقوة عسكرية وعضوية أحلاف وتجمعات دولية توفر ضمانات مهمة، وطموح لدور قيادي إقليمي يملك القدرة على طرح مبادرات في بقاع مختلفة من الإقليم مع ما يمثله ذلك من تحدٍّ لأطراف عديدة.
إسرائيل تقدم النموذج الأكثر فجاجة في المشاريع الراهنة، حيث العدوانية هي الأساس، واستخدام القوة الوحشية المفرطة لتأكيد سطوتها وهيمنتها والردع الاستراتيجي، والمجاهرة بتجاهل القانون الدولي من دون أدنى اكتراث لنقد أو رد فعل ما، ومنع من تراهم أعداء من امتلاك أيٍّ من عناصر القوة أو الجزء الأكبر منها وفقاً للظروف، وإثارة الأقليات بوصفها مصدراً لإضعاف المناوئين، والاستناد إلى تأييد غير مشروط من واشنطن وحلفائها، وقضم أملاك الغير ونهبها بوصفها أرضاً مقدسة لا يملكها إلا اليهود.
عربياً، ومع اختلاف التعبيرات والمفردات، يبرز الإصلاح في إطار الدولة الوطنية بوصفها مشروعاً سياسياً مستقبلياً تعمل على هديه غالبية الدول العربية ذات المؤسسات المستقرة والتقاليد المقبولة من غالبية المواطنين. الإصلاح بصفته مشروعاً للدولة لا يقتصر على الحراك الاقتصادي وحسب، بل يمتد، وإنْ بدرجات أيضاً، إلى الواقع السياسي، مستهدفاً مزيداً من الحرية في المجال العام، ومزيداً من فاعلية المؤسسات السياسية، ومفردات المجتمع المدني، في منظومة تكاملية تحقق للمواطن دفعة كبرى في المشاركة السياسية، ومن ثم تعزيز شرعية النظام السياسي في الداخل، والقدرة على الحركة الفاعلة في الخارج.
الإصلاح الشامل بوصفه منظومة عمل للمجتمعات العربية ونظمها السياسية يتجاوز مبادئ الانكفاء على الذات، ليصبح الانفتاح على العالم بحساب وتخطيط دقيقَين، حتى لا تتعرض المجتمعات العربية إلى ما يجذبها إلى الوراء أو يهدم هويتها، أو يشوِّه منظومة القيم لدى أبنائها. والمسألة هنا تتعلق بالإرادة السياسية والدعم الشعبي معاً، إذ لا يُغني أحدهما عن الآخر.