حين هدأ لهيب حرب الخليج الثانية، وانسحبت القوات العراقية إلى مناطق الجنوب والوسط وكردستان ذات الحكم الذاتي الصوري، اندلعت شرارة الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت جنوب ووسط العراق وكردستان، وفي غضون أيام قليلة، نجحت سلطات النظام العراقي بقسوة بالغة في إخماد هذه الانتفاضة، حتى وصلت وحشيتها إلى دفن آلاف المتظاهرين من جميع الأعمار وهم أحياء في شقوق تحت الأرض، خصوصاً في مناطق الجنوب والوسط.
ساد مبدأ الانتقام خلال عمليات القمع الوحشية، وحين انتهت قوات النظام من القضاء على هذه الانتفاضات، توجهت بقوتها نحو كردستان، مستخدمة الإرهاب الكيماوي عبر رش مواد بيضاء فوق المدن والبلدات لإيهام السكان ودفعهم للفرار من منازلهم وممتلكاتهم، وفعلاً نجحت هذه الخطة الخبيثة في تهجير ما يقارب ثلاثة ملايين مواطن عبر مناطق جبلية وعرة، وفي ظروف جوية قاسية باتجاه تركيا وإيران، ولولا تدخل فرنسا والولايات المتحدة وتركيا، وصدور قرار مجلس الأمن رقم (688)، في 5 أبريل (نيسان) 1991، لوقعت كارثة إنسانية مروعة. فقد منع القرار الحكومة العراقية من الوجود العسكري على الأرض أو في أجواء كردستان، وجعلها ملاذاً آمناً للمدنيين.
عاد الملايين إلى مدنهم وقراهم، وبدأت رحلة جديدة لإعادة إعمار ما دمرته الحرب. وكانت أولى الخطوات إجراء انتخابات عامة لبناء مؤسسات دستورية وتشريعية وتنفيذية تتولى إدارة الإقليم بعد انسحاب الإدارات السابقة للنظام. والأهم من ذلك، كان قرار الرئيس مسعود بارزاني والقيادة الكردية إعلان العفو العام وإلغاء أي عمليات انتقامية، لتبدأ كردستان مسيرتها نحو السلام والازدهار، وبفضل هذه السياسة الحكيمة، أصبحت كردستان نموذجاً يُحتذى به في منطقة تعج بالصراعات العرقية والطائفية، حيث أدى منطق الانتقام المتبادل إلى دمار دول عديدة وتخلفها، وخصوصاً أن ما حدث بعيد انقلاب فبراير (شباط) 1963 من قتل جماعي؛ ترك آثاراً مؤلمة في نفوس العراقيين، جددت فيهم آلام تلك المذابح التي أعقبت ثورة عبد الوهاب الشواف في مدينة الموصل عام 1959، وما رافقها من تصفيات رهيبة لمعارضي حكم عبد الكريم قاسم.
وللأسف لم تتوقف عمليات الانتقام في سوريا أيضاً، خصوصاً ما جرى من حصار بشع لمدينة حلب، وما نتج عنه من ضحايا أليمة في عام 1982، وأعقبها بمجزرة حماة عام 1982 التي ذهب ضحيتها آلاف الضحايا.
واليوم، بعد أن أسقطت فصائل المعارضة السورية إحدى أعتى الديكتاتوريات بعد ديكتاتورية العراق، تبرز الحاجة الملحة إلى الأمن والسلم المجتمعي. أثبتت التجربة العراقية أن الانتقام يؤدي إلى التمزق والانقسام. وتواجه القيادة الانتقالية في سوريا تحدياً كبيراً يتمثل في كيفية معالجة إرث ثقيل يمتد لستين عاماً من الحكم الفردي، وأجيال عديدة تشكل وعيها ضمن منظومة فكرية وتعليمية واحدة.
إن سوريا اليوم بحاجة ماسة إلى مساحات من الأمن والسلام، وإلى نظام ديمقراطي تعددي يحترم الرأي الآخر، بعيداً عن الإقصاء والتهميش وثقافة الانتقام. كما يتطلب الأمر قضاءً عادلاً ينصف الضحايا وذويهم، ويقتص من مقترفي الجرائم وفق إجراءات قانونية، بعيداً عن روح الثأر. من الضروري الاقتداء بالتجربة الكردستانية، التي احتضنت مئات الآلاف من اللاجئين السوريين بمختلف انتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية، وعملت بجد لإيقاف دوامة الانتقام وبناء دولة ديمقراطية مدنية يتساوى فيها الجميع تحت مظلة المواطنة والعدالة.
لقد قدمت كردستان للشرق الأوسط نموذجاً مشرفاً في التعامل مع أتباع النظام البعثي السابق؛ إذ أعلنت عفواً عاماً عن كل من لم تتلطخ أيديهم بالدماء أو الاغتصاب، ومنحت ذوي الضحايا حق العفو أو المطالبة بالقصاص عبر القضاء بعيداً عن أي تصفية عشوائية، بفضل هذا النهج الإنساني، أصبح المجتمع الكردستاني متماسكاً يسوده الأمن والاستقرار، مما أسهم في تحويل الإقليم من منطقة فقيرة مدمرة إلى واحة من العمل والازدهار، حيث انخفضت مستويات الفقر والبطالة إلى أدنى درجاتها، وتحول الإقليم إلى ملاذ آمن لكل العراقيين بمختلف أعراقهم ودياناتهم، واستقبل أكثر من مليون نازح عراقي ونصف مليون لاجئ من سوريا وتركيا وإيران، يعيشون جميعاً في أمن وسلام.
ويحضرني هنا ما قاله الزعيم الكردي، مسعود بارزاني، في آخر اجتماع للمعارضة العراقية قبل إسقاط نظام صدام حسين في 2003؛ رداً على فكرة تصفية نظامه قائلاً: «أنا أرفض أي عملية انتقام، نحن ذاهبون لإعادة بناء دولة على أسس ديمقراطية مدنية إنسانية، لقد ذهبت إليه (يقصد الرئيس صدام حسين) في عام 1992 أفاوضه، وأنا أمشي على جثث أكثر من 37 من أقربائي، و8 آلاف من عشيرتي، و182 ألفاً من شعبي قتلهم نظامه، حينما توفرت فرصة للسلام والأمان من أجل قضيتي. صدقوني لن ننجح في بناء وطن ودولة بثقافة الانتقام».
إن دروس الماضي القريب تُعلّمنا أن الأوطان لا تُبنى على أنقاض الانتقام، بل على أسس التسامح والعدالة، وكما نجحت كردستان في تحويل الألم إلى أمل، فإن سوريا اليوم أمام مفترق طرق يتطلب شجاعة في اتخاذ القرارات الصائبة، والابتعاد عن دوامة الانتقام، لتحقيق مستقبل ينعم فيه الجميع على مختلف مشاربهم وأعراقهم ومعتقداتهم بالأمن والمساواة والعدالة.