أول إعلانات الرئيس المنتخب العائد ترمب، كان استحداث وزارة للكفاءة الحكومية، وهي مبادرة جريئة – كما هو غير مستغرب - تهدف إلى إعادة هيكلة وتنظيم الحكومة الفيدرالية الأميركية. سيترأس هذه الوزارة كل من إيلون ماسك، والمرشح الرئاسي السابق فيفيك راماسوامي، وأهم مساعيها تقليل البيروقراطية، وخفض التنظيمات غير الضرورية، وتقليص الإنفاق الحكومي الزائد، وإعادة هيكلة الوكالات الفيدرالية لتحسين الكفاءة العامة. ورغم أن هذه الإدارة ليست جزءاً رسمياً من الحكومة؛ إذ ستعمل كهيئة استشارية خارجية، فإنها تهدف إلى تقديم توصيات لإحداث تغييرات جذرية.
ولطالما طالت الانتقادات الحكومة الفيدرالية بوصفها كياناً متضخماً وغير فعال. ولعقود جادل النقاد بأن التنظيمات المفرطة، والعمليات المكررة، وسوء تخصيص الموارد... قد أعاقت الابتكار، وزادت التكاليف، وأرهقت دافعي الضرائب. ومن خلال تقديم منظور خارجي، تهدف وزارة الكفاءة الحكومية إلى تحديد نقاط الضعف، واقتراح حلول قابلة للتنفيذ يمكنها تحسين العمليات وتوفير مليارات الدولارات.
وجهود إصلاح الكفاءة الحكومية ليست جديدة على الولايات المتحدة؛ ففي ثمانينات القرن الماضي، أطلق الرئيس رونالد ريغان «لجنة جريس»، وهي فريق من القطاع الخاص مكلف بتحديد الممارسات الحكومية غير الضرورية. وبالمثل، قاد نائب الرئيس آل غور في التسعينات مبادرة «إعادة اختراع الحكومة» التي استهدفت تقليل التكرار، واقترحت تخفيضات في القوى العاملة. ومع ذلك، واجهت هذه الجهود مقاومة كبيرة وحققت نجاحات محدودة، وغالباً ما أخفقت في تحقيق التغييرات الجذرية الموعودة. وتسلط هذه المحاولات الضوء على حجم التحدي الذي سيواجهه ماسك وراماسوامي.
وما أضاف الشهرة لهذه الوزارة هو اختيار ماسك لإدارتها؛ فسمعته كمبتكر ورائد في القطاع الخاص تتماشى مع أهدافها. وعدم اهتمامه بالرأي العام، بل وحبه للصدام مع نمط التفكير السائد، أعطاه ميزة لتوليها. وماسك ملتزم دائماً بخفض التكاليف، ومؤمن بمبدأ الإدارة الرشيقة؛ ففي شركة «تسلا»، نفذ ماسك إجراءات صارمة لخفض التكاليف؛ إذ خفض القوى العاملة بنسبة 10 في المائة في عام 2018 للحفاظ على الربحية خلال فترات صعبة. وفي شركة «سبيس إكس»، أدت ابتكارات ماسك إلى خفض تكلفة إطلاق الصواريخ بنسبة تصل إلى 50 في المائة مقارنة بالوكالات التقليدية مثل «ناسا». أما في «إكس»، فقد أعاد هيكلة المؤسسة جذرياً في عام 2022؛ إذ خفض عدد الموظفين من 8000 إلى 1500 فقط، مبرراً ذلك بالحاجة إلى استقرار المنصة مالياً. ولم ينسَ العالم بعدُ صورة ماسك وهو يحمل «مغسلة» في أول يوم له في «إكس»؛ ومع ذلك فقد بلغ «إكس» أعلى مستويات استخدامه بعد تولي ماسك إدارته، وارتفعت أسهم «تسلا» بنسبة 28 في المائة خلال العام الماضي، وبلغت القيمة السوقية لـ«سبيس إكس» نحو 250 مليار دولار. وتُبرز هذه النجاحات قدرة ماسك على تنفيذ تغييرات صعبة وتحقيق نتائج، وهو أمر بالغ الأهمية لمشروع طموح لزيادة الكفاءة الحكومية.
وبالنظر للمخاطر المرتبطة بهذه الوزارة الجديدة، فإن أحد المخاوف الرئيسة هو التأثير المحتمل للتخفيضات الجذرية على الوظائف الحكومية الأساسية؛ فعلى سبيل المثال، اقترح ماسك خفض الإنفاق الفيدرالي بمقدار تريليونَي دولار، وهو ما يمثل نحو ثلث الميزانية الفيدرالية بأكملها. ولتحقيق هذا الهدف، فسيتعين تنفيذ تخفيضات عميقة في الإنفاق التقديري الذي يشمل برامج حيوية في مجالات التعليم والصحة العامة والبنية التحتية. مثل هذه التخفيضات قد تقوّض شبكة الأمان الاجتماعي، وتقلل من قدرة الحكومة على الاستجابة بفاعلية للأزمات مثل الأوبئة أو الكوارث الطبيعية. وعلاوة على ذلك، قد تواجه الإدارة مقاومة كبيرة من البيروقراطية الفيدرالية، ومن الكونغرس الذي يملك السلطة لتنفيذ تغييرات في الميزانية والهياكل.
وبالنظر إلى المستقبل، يمكن أن تنشأ عدة سيناريوهات لإدارة الكفاءة الحكومية. في سيناريو متفائل، قد ينجح هذا المشروع في تحديد نقاط الضعف؛ مما يؤدي إلى توفيرات مالية ملموسة وتحسين تقديم الخدمات، مثل هذا النجاح سيعزز ثقة الجمهور بالحكومة، ويؤسس سابقة للإصلاحات المستقبلية. وفي سيناريو أقل تفاؤلاً، قد تُخفف توصيات الإدارة بسبب المقاومة السياسية؛ مما يجعل المبادرة رمزية إلى حد كبير دون تأثير ملموس على العمليات الحكومية، كما كان الحال في المحاولات السابقة. أما السيناريو الأكثر قلقاً، فيتمثل في العواقب غير المقصودة الناجمة عن التخفيضات المفرطة، فإذا تم تقليص البرامج الأساسية، أو إذا أثرت تخفيضات القوى العاملة على الخدمات الحيوية؛ فقد يؤدي رد الفعل السلبي إلى تفاقم عدم الثقة في الحكومة، وتقويض الأهداف التي تسعى الإدارة لتحقيقها. بالإضافة إلى ذلك، إذا تم اعتبار دور ماسك مصلحة شخصية، فقد يضر ذلك بمصداقية المبادرة.
إن زيادة الكفاءة الحكومية محاولة طموحة لمعالجة أوجه القصور الطويلة الأمد في العمليات الفيدرالية، وهو طموح لكل إدارة حكومية جديدة في المجمل، ولكن النجاح فيها يعتمد على القدرة على تحقيق التوازن بين المسؤولية المالية والحاجة إلى الحفاظ على الخدمات الأساسية وثقة الجمهور. وما يحدث الآن في الشارع الأميركي أن معظم المشككين في هذا المشروع هم من خلفية ديمقراطية، وبالمقابل معظم المؤيدين من الحزب الجمهوري، ولكن النظرة الموضوعية لهذا المشروع تحتم معرفة أن خفض تكلفة الميزانية الفيدرالية إلى الثلثين هو أمر صعب، وإنجازه خلال أربع سنوات يزيده إشكالاً، ولكن إن كان هذا الأمر قابلاً للتحقيق، فهو بوجود ماسك تحت إدارة ترمب؛ لصفاتهما الشخصية، قبل الإدارية.