أكد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في القمة العربية والإسلامية غير العادية، 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، ضرورة «إلزام إسرائيل احترامَ سيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشقيقة وعدم الاعتداء على أراضيها».
وزارة الخارجية السعودية، كانت قد أصدرت، في 26 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بياناً أعربت فيه عن «إدانتها واستنكارها للاستهداف العسكري الذي تعرضت له الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والذي يُعدّ انتهاكاً لسيادتها ومخالفة للقوانين والأعراف الدولية».
هذان الموقفان السياسيان الصريحان، من المهم تأملهما، فهما مفتاحان أساسيان لفهم مسار تطور العلاقات بين الرياض وطهران، بعد عودتها إثر توقيع «اتفاق بكين»، برعاية صينية، مارس (آذار) 2023، الذي أعلنت الدولتان في أكثر من مناسبة التزامهما بتطبيقه.
هنالك استراتيجية سعودية تسعى لخفض التوتر في الشرق الأوسط، ومساعٍ لحل الملفات العالقة مع دول الجوار عبر الحوار المباشر؛ وذلك جزء من رؤية تعتقد الرياض أنها الطريق الأكثر نجاعة لبناء شبكة أمانٍ إقليمية، خصوصاً في هذا الوقت الدقيق عسكرياً وأمنياً، الذي تمارس فيه إسرائيل «الإبادة الجماعية» بحق الشعب الفلسطيني، كما وصفها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، محذراً من أن مواصلة إسرائيل حربها من شأنه «تقويض الجهود الهادفة لحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة وإحلال السلام في المنطقة».
السعودية تعمل بشكل مستمر على تطوير هياكل الدولة، وتحقيق مستهدفات «رؤية المملكة 2030»، وتنويع مصادر الدخل، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وخلق فرص عمل جديدة للمواطنين، وتحويل عدد من المناطق والمدن لأماكن جذب سياحي، فضلاً عن مساعيها لتكون من الدول الرئيسية في الحصول على تقنيات الذكاء الاصطناعي والاستثمار فيها؛ وكل هذه الجهود المتتابعة تحتاج إلى بيئة آمنة مستقرة، كي تنمو فيها المشاريع الكبرى بشكل طبيعي دون قلق من حدوث حروب إقليمية مدمرة، لأن الرياض لا تريد أن تستنزف الاضطرابات الإقليمية ميزانياتها، وإنما تريد إنفاق الأموال لتحقيق رفاهية الشعب وتعلّمه، كما التنمية وبناء المدن والمشاريع الحديثة التي بدأتها.
من هنا، عملت الرياض على دعم المصالحة في اليمن بين الأطراف المتعددة، والدفع نحو تحصين الحدود الجنوبية، وكان هنالك تواصل مع «الحوثيين» أدى حتى الآن لتفاهمات حمت الداخل السعودي، وجنبته الاعتداءات التي كانت تقع سابقاً، من خلال استراتيجية جمعت بين القوة العسكرية والدبلوماسية والجهود الإغاثية.
شرقاً، عملت السعودية على إعادة علاقاتها مع إيران، لا من موقع الضعف، وإنما البحث عن حلول من خارج الصندوق!
تتعرض إيران لعقوبات أميركية أنهكت اقتصادها، نظراً للسياسات التي انتهجها «الحرس الثوري»، وهو ما حركَ العديد من النقاشات في طهران عن جدوى الاستمرار في سياسات غير ذات جدوى تجاه الجوار العربي، ودفعها إلى الذهاب نحو الانفتاح أكثر على دول الخليج العربية، وفي مقدمتها السعودية.
يمكن اعتبار «اتفاق بكين» حجر زاوية في العلاقات السعودية - الإيرانية التي تتقدم بخطى ثابتة، يوماً بعد آخر، دون استعجال أو تراجع، إلا أن الرياض تسعى لأن تبنيها على تفاهمات جادة، مستدامة، تعالج القضايا الأمنية والسياسية التي كانت محل تباين، والسبيل إلى ذلك «عدم التدخل في الشؤون الداخلية»، و«احترام حسن الجوار»، والكف عن أن يكون للتنظيمات المسلحة أدوار تخريبية.
بالتأكيد، لا يمكن الجزم بأن جميع الملفات تم التوافق عليها، لأن ذلك يحتاج إلى وقت وتهيئة ظروف عملانية موضوعية، فضلاً عن أن التطورات العسكرية المفصلية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، ما بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، عقَّدت المشهد السياسي بطريقة غير متوقعة. إلا أن الأهم، أن السعودية وإيران رغم ذلك، استطاعتا إدارة العلاقة بينهما بطريقة حصيفة حققت استقراراً مهماً في الخليج العربي، وشكَّلت شبكة أمانٍ، ودونها كان من الممكن أن تسوء الأوضاع إقليمياً، فهما دولتان مؤثرتان بشكل كبير، دون أن ننسى أن إيران على ارتباط عضوي بـ«محور المقاومة» الذي هو اليوم جزء من الحرب مع إسرائيل في أكثر من جبهة.
الخط الزمني، لو تمت الإضاءة عليه، سنجد أنه يحيلنا إلى سياق تراكمي، يأخذ منحى تصاعدياً بهدوء.
على هامش القمة العربية والإسلامية غير العادية في العاصمة، الرياض، التقى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالنائب الأول لرئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية محمد رضا عارف؛ حيث «جرى، خلال اللقاء، استعراض العلاقات الثنائية بين البلدين وعدد من الموضوعات ذات الاهتمام المشترك»، وفق «وكالة الأنباء السعودية».
من جهتها، نقلت «وكالة الأنباء الإيرانية»، عن السيد محمد رضا عارف، إشادته بـ«جهود الرياض في استضافة الاجتماع الطارئ لمنظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية»، مؤكداً على أن «المسار الجديد الذي تم اتباعه في الأشهر الأخيرة لتنمية وتوسيع التواصل والتفاعل بين البلدين هو مسار لا رجعة فيه»، وأن «فوائد تعميق وتوطيد العلاقات الثنائية هذه لن تقتصر فقط على إيران والسعودية، إنما ستمتد لتشمل تنمية التعاون الإقليمي والتضامن بين الدول الإسلامية».
لقاء عارف هو ثاني لقاء لمسؤول إيراني مع الأمير محمد بن سلمان جرى خلال أقل من 5 أسابيع؛ فقد استقبل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، في 9 أكتوبر الماضي.
قُبيل زيارة محمد رضا عارف إلى المملكة، أجرى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، اتصالاً هاتفياً بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان؛ حيث «أعرب الرئيس بزشكيان عن أمله في تطوير وتوسيع العلاقات بين البلدين أكثر من ذي قبل وفي جميع الصعد»، وفق ما نقلته وكالة «إرنا».
في يوم الاتصال ذاته توجه إلى الرياض أمين «لجنة حقوق الإنسان» في إيران، كاظم غريب آبادي، وذلك للمشاركة في اجتماع «منظمة التعاون الإسلامي».
من جهته، قال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، وضمن حوار مع الإعلامية الأميركية بيكي أندرسون، خلال فعاليات «مبادرة استثمار المستقبل» في العاصمة السعودية الرياض، إن العلاقات السعودية - الإيرانية «تسير في الاتجاه الصحيح»، لكنها «معقدة بسبب الأوضاع الإقليمية»، مضيفاً أن «إيران تدرك خطر التصعيد وتريد تجنُّبه»، كاشفاً عن أنه «تجري حوارات صريحة وواضحة معهم».
هذه الصراحة والوضوح بين الجانبين هي ما جعل علاقات الرياض وطهران تتحسَّن، وهي في الوقت ذاته ما يجعلها تُبنى على مهلٍ ودون إرباك أو استعجال مخلٍ، لأن الهدف ليس الحوار لمجرد الحوار، أو العلاقات الصورية، وإنما أن تكون العاصمتان المؤثرتان على قدرٍ من التعاون البنَّاء، الذي لن يخدم فقط مصالح البلدين، بل سيدفع منطقة الشرق الأوسط نحو تغيرات مفصلية؛ خصوصاً في حال استطاع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان تطبيق سياساته الخارجية الأكثر انفتاحاً، وتم تحييد المفاعيل الأمنية السلبية لـ«الحرس الثوري» والفصائل الخارجية التابعة له، حينها ستنتقل العلاقات لمستويات متقدمة.
* كاتب سعودي