د. سعاد كريم
باحثة لبنانية
TT

مشروع مارشال جديد

استمع إلى المقالة

إذا عدنا بالتاريخ إلى الوراء نجد أن الدول الأوروبية المنخرطة في الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) خرجت محطّمة بعد أن تسبّبت الحرب بتدمير اقتصادها إلى حدّ كبير، مما أدّى إلى انتشار الفقر والجوع والبطالة والفوضى بشكل واسع. هذا ما زاد القناعة لدى القادة والساسة الأميركيين بأن أوروبا لا تستطيع أن تعافي نفسها من دون مساعدة، فسارعت الولايات المتحدة الأميركية، صاحبة أقوى اقتصاد في العالم آنذاك، إلى نجدة اقتصاد غرب أوروبا وإنقاذه من الانهيار والتدهور التام؛ لأنها عدّت أن مصالحها الاستراتيجية الأميركية ستكون في خطر في حال سقطت أوروبا في براثن الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية.

عندما دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية بإيعاز وإلحاح من رئيس وزراء بريطانيا العظمى وينستون تشرشل، ولأسباب عديدة؛ أهمها: وضع أميركا الاقتصادي المنهار بعد أزمة الركود الاقتصادي الذي حدث عام 1929 وساد العالم، وعندما خرجت منها كانت الرابحة الوحيدة والأغنى والأقوى بعد تحويل جزء من صناعاتها المدنية ما قبل الحرب إلى صناعات عسكرية خلال الحرب، وأقوى مما كانت عليه قبلها. وسبب آخر كان الخوف من السيطرة الشيوعية على القارة الأوروبية قاطبة.

وفي هذا السياق في 5 يونيو (حزيران) خلال عام 1947، ألقى رئيس هيئة الأركان في الجيش الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية ووزير خارجيتها في ما بعد، الجنرال والوزير جورج مارشال، كلمة أمام خريجي وطلبة «هارفارد» بمناسبة الاحتفالات السنوية للجامعة، فكانت اقتراحاً أكثر مما كانت مشروعاً، طلب فيها من الأوروبيين وضع خُطّتهم الخاصة لإعادة إعمار أوروبا، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة ستتولّى تمويل هذه الخطة/المشروع بعد ذلك على شكل هبات عينية ونقدية وحزمة من القروض الطويلة الأمد بلغت قيمتها 12.9925 مليار دولار أميركي، وتمتد فترة التنفيذ على مدى أربع سنوات من أبريل (نيسان) 1948 حتى يونيو 1952، بعد توقيع الرئيس الأميركي هاري ترومان على قانون أُطلق عليه «برنامج الانتعاش الأوروبي» في 3 أبريل عام 1948.

كانت هذه الخطة من أنجح التجارب والمشروعات التي قامت بها الولايات المتحدة والتي تهدف إلى إيقاف التدهور الاقتصادي في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية ومنع ركود التجارة العالمية؛ بحيث سعت إلى تحفيز الإنتاج الأوروبي وزيادة وتسهيل التجارة الحرة بين الدول الأوروبية في ما بينها، وبين الدول الأوروبية والعالم، إلى أن تمكّنت من إعادة توازن الإنتاجية الصناعية والزراعية وإعادة التوازن إلى ميزان مدفوعاتها، كما أسهم المشروع في توثيق العلاقة في ما بينها من جهة، وبينها وبين الولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى. (والأهم من هذا كله منع الشيوعية من التوسع). وفي تلك الأثناء تمّ إنشاء البنك الدولي لإعادة بناء أوروبا واليابان في بريتون وودز (1944)، وصندوق النقد الدولي للتعاون الاقتصادي (1944)، وفي ما بعد الـ«غات» (Gatt)؛ الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة (1947).

مع دخول الكثير من دول الشرق الأوسط في دوامة الثورات والحروب، سيخرج الكل خاسراً في النهاية، وستخرج البلدان العربية المنخرطة في الحرب (في العراق، وسوريا، وليبيا وحتى اليمن) ضعيفة، منهكة القوى، مدنها مدمّرة واقتصادها منهار، وشعوبها جائعة؛ بحيث أصبحت هذه الدول بحاجة ماسّة وملحّة إلى مساعدة ما بعد الحرب بسبب عدم قدرتها على إعادة ما تهدّم خلال هذه الفترة، وإلى مساندة فاعلة لنهوض اقتصادها واستقراره، خصوصاً الحرب التي تدور رحاها بين «حزب الله» في لبنان وحركة «حماس» في فلسطين من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى شملت كل شيء؛ قتلت البشر ودمّرت الحجر وحرقت الأرض، وطاول القصف البنى التحتية والمستشفيات والمدارس حتى الآثار لم تسلم من الأذى، كما تسبّبت بإلحاق أضرار مادية وديموغرافية في غزة كما في لبنان. وهنا يُطرح السؤال: هل بالإمكان تطبيق مشروع إعمار ما بعد الحرب في منطقة الشرق الأوسط على غرار «مشروع مارشال»؟!

إن مشروعاً، مثل «مشروع مارشال» يربط بين الدول العربية في تكامل اقتصادي عربي، هو مفيد في كثير من النواحي التي تؤدي إلى خفض التكاليف، وبالتالي إلى زيادة الثروة الإنتاجية، ويعود بالنفع على الاقتصادات كافّة، ويزيد من حجم التجارة البينية بين الدول العربية بإلغاء الحواجز الجمركية التي تواجه حركة التبادل التجاري، وتعزيز الاستثمارات المشتركة وبناء الشركات وتزايد قوتها؛ بحيث تُؤخذ المنافسة في الاعتبار.

الإرادة السياسية والاستقرار السياسي والأمني ومراقبة الفساد وعدم الهدر تشكّل القاعدة الأساسية لأي مشروع اقتصادي ينهض بالبلاد نحو رؤية استراتيجية شاملة تقوم على الاستثمار في إعادة بناء كل ما تهدم. ومن خلال هذه الجهود المشتركة يمكن النهوض والبناء والتقدم.