د. آمال مدللي
مستشارة في الشؤون الدولية - واشنطن
TT

أميركا... الصفحة قُلبت

استمع إلى المقالة

كان شعارُ حملة المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس: «اقلبوا الصفحة» على ترمب. ليلة الانتخاب قلب الناخبون الأميركيون الصفحة، ولكن على هاريس والحزب الديمقراطي، في انتخابات، أقل ما يقال فيها إنها تاريخية، يمكن أن تجري تحولاً يغير أميركا والعالم كما نعرفهما، خصوصاً إذا فاز الجمهوريون بالسيطرة على الكونغرس بمجلسيه: الشيوخ، هذا تمَّ، ومجلس النواب الذي ما زالت نتائجه غير نهائية حتى كتابة هذه السطور.

هناك أسباب كثيرة لهزيمة الديمقراطيين، وخصوصاً أن الهزيمة لا تعكسها الاستفتاءات التي كانت تشير إلى تقارب كبير بين المرشحين، مع توقعات في آخر أيام الحملة أن تفوز هاريس. السبب الأول هو شعار أطلقه الديمقراطيون أنفسهم منذ أكثر من ربع قرن عندما هزموا الرئيس جورج بوش الأب، يقول: «إنه الاقتصاد يا غبي». مع أن المؤشرات الاقتصادية كانت جيدة في أسواق المال، وعلى الورق كان الناخب الأميركي يتذمر من غلاء الأسعار، وأظهرت الاستفتاءات أن الاقتصاد كان القضية الأولى في اهتمامات الناخبين. ومع ذلك أصرت حملة الديمقراطيين على جعل الانتخابات استفتاء على الرئيس ترمب وشخصه ووصفه بأقسى الوصف من ديكتاتور إلى فاشي، كما قالت هاريس نفسها، والتركيز على خطره الوجودي على الديمقراطية الأميركية، كما ركزوا على الإجهاض وحق المرأة في تقرير ما يخص جسدها. بالرغم من أهمية هاتين المسألتين أظهرت النتائج أنهما ليستا بأهمية لقمة العيش والأمان للأميركي العادي. وهذا أدَّى إلى اتهام الحزب الديمقراطي باللامبالاة بالطبقة العاملة، وتحوله إلى حزب النخبة الذي يعتقد أن هوليوود ونجومها يمكنهم أن يقنعوا الأميركي الفقير بالتصويت لهم، بدلاً من سياسات تمس حياته اليومية. الجمهوريون وترمب فهموا ذلك، وركزوا على هموم الناس من أسعار المواد الغذائية إلى الأمن والخوف من تدفق الهجرة غير الشرعية، التي أدَّت إلى حدود مفتوحة في عهد بايدن وأدخلت مئات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين إلى أميركا. الغريب أنَّ الحزب الجمهوري أصبح حزبَ الطبقة العاملة، وعكست نتائج الانتخابات هذا التحول. السيناتور بيرني ساندرز المستقل من ولاية فيرمونت وجّه انتقاداً لاذعاً للحزب الديمقراطي بعد الهزيمة، وقال: «يجب ألا يتفاجأوا بالنتيجة، لقد أداروا ظهرهم للطبقة العاملة من السود، والذين من أصول أميركية لاتينية». وقال إنَّ الشعب الأميركي غاضب ويريد التغيير، وهناك عدم مساواة في الثروة غير مسبوقة، بينما المستشارون ذوو الأجور الباهظة والمصالح المالية الكبرى يسيطرون على الحزب الديمقراطي، فهل يتعلمون درساً من هذه الحملة الكارثية؟ الواقع أنه على حق. فالمرشحة هاريس ظهرت في مقابلة انتخابية ترتدي عقداً من الذهب من محل تيفني الشهير، بقيمة 62 ألف دولار، ما يشير إلى انفصالها عن واقع من تمثلهم وواقع أميركا.

السبب الثاني هو موقف الحزب من الصوت العربي في الانتخابات، الذي كانت هاريس تحتاجه لكي تفوز بولاية ميشيغان المحورية بين الولايات المتأرجحة للفوز بالانتخابات. فقد رفض الحزب أن يعطي الفرصة لممثلي الجالية العربية من أعضاء الحزب خلال المؤتمر العام الذي عقده لإلقاء كلمة، لأنهم لا يريدون التحدث عما يحدث في غزة. ولم تفتح هاريس بابها لممثلي الجالية، كما فعل ترمب عندما زار مدينة ديربورن ذات الأغلبية من أصول عربية، والتقى بهم. وظهرت إعلانات وضعتها حملة هاريس في وقت متأخر في الحملة تحمل بيانات لها، تقول إنها تدعم وقف إطلاق النار، وإنها ستفعل كل ما في وسعها لتحقيق ذلك، وتحدثت عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، ولكن في الوقت نفسه وضعت إعلانات موجهة للجالية اليهودية في ولاية بنسلفانيا تتحدث فيها فقط عن دعمها لإسرائيل، وعن حقها في الدفاع عن نفسها، ما أعطى الانطباع أنها غير صادقة، وتقول ما قالته لكي تفوز بالانتخابات. كانت النتيجة أن غالبية الجالية العربية والمسلمة صوّتت إما لترمب، أو للمرشحة جيل ستاين عن حزب الخضر أو لم يصوتوا على الإطلاق. لقد خسر الحزب الديمقراطي العرب الأميركيين الذين قالوا إن الحزب تجاهل المهم وتخلى عنهم، مع أن غالبيتهم كانت تصوت للديمقراطيين في السابق، وخسر الانتخابات في ميشيغان وخسر الرئاسة.

السبب الثالث هو أن الحزب بعد تنحي الرئيس بايدن عن الترشح، لم يفتح المجال لمن يرغب في الترشح، وعمد قادته بشكل غير ديمقراطي إلى فرض هاريس مرشحة وحيدة لتحلّ مكانه مع أنها لم تكن معروفة جداً للشعب الأميركي. كبار قادة الحزب، وبينهم الرئيس باراك أوباما، اعتقدوا أن اللحظة التاريخية موجودة لانتخاب امرأة من أصول أفريقية - هندية رئيسةً لأميركا. لكن عندما قال الشعب الأميركي كلمته، يوم الثلاثاء، وجدنا أن النساء لم يخرجن بالملايين للتصويت لوضع امرأة في البيت الأبيض، وإنما جاءت نسبة التصويت العادية لهن بحدود 53 في المائة، مثل الانتخابات السابقة.

السبب الأخير والأهم هو أن هناك توجهاً متزايداً نحو اليمين السياسي في الولايات المتحدة، فَهِم الرئيس ترمب هذا التوجه ومكمنه لدى المسيحيين المتدينين، فتوجه لهم وزار الولايات حيث معقلهم وأغدق عليهم الوعود الانتخابية. وهذه الشريحة من الناخبين آيديولوجية، وملتزمة، وتصوت بإيمانِ مَنْ يعتقد أن حياته تعتمد على النتيجة. وحسب مقال في «نيويورك تايمز» بعنوان «ترمب يعد بحقبة من القوة المسيحية»، يقول الكاتب إن وعد ترمب يمكن أن يُحدث تحولاً في أميركا، لأنه يعد بدعم المسيحية التي ينادي بها مؤيدوه من «المسيحيين الجميلين»، كما يصفهم حسب المقال، في الحياة الأميركية والحكومة. ويكشف أن ترمب وعد هؤلاء بفتح خطوط لهم إلى البيت الأبيض «مباشرة إلى المكتب البيضاوي ولي شخصياً»، وأنه قال للكهنة في ولاية جورجيا: «يجب أن ننقذ الدين في أميركا».

ترمب فهم الخوف لدى الأميركيين من سياسات الديمقراطيين الليبرالية، خصوصاً التغيير الجنسي، وخوف الأهالي من تدخل الدولة في حياة أطفالهم، حسب سياسات اجتماعية أدخلها الديمقراطيون، بينما بدا الحزب الديمقراطي وكأنه فقد معرفة نبض الشارع الأميركي.