تركي الفيصل
TT

بندر.. وسيم الروح والمحيا

بأفول نجوم سمائي جفَّ الدمع في محاجري.. وهذا نجم آخر في سمائي يأفلُ..
أرفع عينَيَّ إلى السماء، أجدُها تسكب ماءها، علّها تغسل حزني، وتبرد لظى حرقة الأسى ولوعة الفراق.. يا لقسوة فراقك يا رفيق صباي وصديق عمري، بندر..
في لعبنا صغارًا كنت قائدًا، الفارس البطل، عنترة.. وابن الوليد.. والسندباد!! في الطائف كنا نقطّع غصون الشجر ونجففها لتغدو سيوفنا التي نتبارز بها.. في رحلاتنا المدرسية كنت تسبق زملاء الدراسة إلى قمم الجبال، فأتباهى بك فخرًا واعتزازًا.. في العدو كنت السبّاق الذي أفاخر به.. في الشعر كنت أعتز بك لتفوقك في حفظ القصيد. ومن خلقك النبيل أنك كنت من يبادر للصلح عندما نتشاجر.. كبرنا ونحن نتشارك غرفة المبيت.. واغتربنا.. وكنتَ لي الأنيسَ الذي يبرد وحشة الاغتراب.. ثم بعد أن فرقتنا مسالكُ العمل تساميت عن الأرض، تلك التي أولعت فيها «بسباق السيارات» لتسابق الضوء في السماء..!! اخترت الفضاء عن الثرى، والطائرة عن العربة.. مضمارك في الإبحار ربانًا قائدًا لا تستعصي عليك الريح ولا الضوء، فكنت طيارًا لأسرع مراكب السماء.
اقتحمتَ العسكرية لتصبح حربيًا في مهنتك، طيارًا بطموحك وشغفك. تتباهى طلعتك كما تتباهى حُلتك الزرقاء كالسماء.. وفيها تحلّق نحو أعلى السحب، تتخطى سرعة الصوت.. أربعون عامًا ونيف أمضيتها في سبيل ربك، وخدمة وطنك، مليكك وشعبه. ذدت عن تراب الوطن، في معركة «الوديعة» حيث سجلت اسمك ناصعًا في سطور النصر.. تدرّجت في الخدمة لتصبح مسؤولاً عن تفتيش القوات الجوية، ثم عن استخباراتها.. بدأت ملازمًا، وتقاعدت فريقًا.. ولك من هاتين الرتبتين وما بينهما مسؤوليات وواجبات أديتها بإتقان المخلص.
ولم تكتفِ بعملك الرسمي الحكومي، بل أسست مزرعة نموذجية، ومحمية للبيئة الطبيعية، ملتقى لكل من أراد أن يلقاك أو يستمتع بنزهة في جو الصحراء الصافي، شراعك مفتوح لكل من يقصدك وضيافتك الودودة لمن يأوي إليك، وأضفت بعد تقاعدك تأسيسك لمشروع حضاري كان الأول من نوعه في مجتمعنا، هدفه أن يسهم في شغل الشباب بمهنة شريفة وماتعة في آن، تقوم عليها مهن أخرى، تتنامى منفعتها بقدر ما تتسع به من أهداف وتطبيقات، وما توفره من فرص وإتاحات، وبها عدت لمضمار هوايتك الأولى في «سباق السيارات» لتكون الفارس في السماء، والفارس في الأرض.. وفي هذا المشروع أنشأت حلبة (الريم)، جلبت إليها محبي هذه الرياضة، بعد أن وفرت لهم المكان المعد لممارستها.
الذكريات معك تطول وتطول.. فمآثرك كثيرة يا أخي بندر، من أهمها أسلوبك الجميل النبيل الراقي في التعامل مع الآخرين، شاهدتك كثيرًا في مواقف مختلفة تحاورهم، تجادلهم، تفرح معهم، تغضب منهم، ولهم، وكثيرًا ما تكسر جدية نقاش بملاحظة خاطفة تستلهم الابتسام ليبتسم الجميع وينفضوا سعداء.. لقد كنت مميزًا في قدرتك على كسب من يختلف معك، وكذلك بثقة من يزهو بك. إنني أذكر ضمن ما أذكر لك من المواقف التي لا تغيب عني، ما أكدَ لي صدق حدسك وبُعد رؤيتك في مناسبة نبهتني فيها لأمر كنت قد تحدثت فيه معك مباشرة، بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية يتعلق بتوازن القوى في المنطقة، وخروج العراق لا منتصرًا ولا منهزمًا، فالتفت إليَّ وقلت: «الله يستر من صدام حسين، أخشى أنه سيستدير الآن إلينا»..
كذلك أذكر لك نيتك كتابة بحث عن أسباب نجاح جيوش الفتوحات الإسلامية، مستشهدًا بخالد بن الوليد، فإنني أعدك أن أبحث عمّن يقوم بذلك، وأمكنه من تحقيق هذا البحث الذي كنت تريد. إنني وأنا في عتي العمر، كنت أتطلع إلى أن نترافق في تماشينا وأحاديثنا، كما في سابق سنين، هناك على تلال مزرعتك، وعلى شاطئ أبحر، وفوق جادة «الشانزليزيه»... لكن!! كان القدر أسرع مما تمنيت، إذ خطفك مني، وأقصاني عنك.. ولسوف أنشد السلوى في ذكرياتي الحلوة معك، يقيني أن هذه الذكريات لا تضج فيّ وحدي، بل في ذاكرة كل من عرفك شهمًا، كريمًا، شجاعًا، وسيمًا في الروح كما في المحيا، وفي قلوب من امتلأ قلبه نبضًا بك.
تغمدك الله برحمته، وأسكنك فسيح جنته.