د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

حكايات نووية... «القنبلة في القبو»

استمع إلى المقالة

الحديث عن الأسلحة النووية له مذاق خاص من الناحيتين العسكرية والاستراتيجية، فضلاً عن النواحي التقنية. من يملك القدرات النووية القادرة على صنع قنابل ذات رؤوس نووية، اندماجية أو انشطارية، ولديه وسائل الإطلاق إلى حيث يستهدف، يضع لنفسه مكانة خاصة في العلاقات الدولية. ولعل هذه المكانة والرغبة في احتكارها لدى الدول الخمس النووية المعترَف بقانونية امتلاكها أسلحة نووية، وفقاً لمعاهدة منع الانتشار النووي، تعني -واقعياً- تمييزاً لا تقبله دول كثيرة.

ورغم اعتبار كل من يسعى إلى امتلاك تلك القدرات العسكرية الفتاكة بمثابة بلد متمرد على إرادة الدول الاحتكارية، فهناك تمييز آخر يتمثل في استثناء خاص لإسرائيل التي ابتكر من أجلها مصطلح «القنبلة في القبو»، إذ امتلكت أسلحة نووية بمساعدات فرنسية معروفة، منذ خمسينات القرن الماضي، وضمانات أميركية بعدم فتح هذا الملف دولياً، وإبعاده تماماً عن مسؤوليات وكالة الطاقة الذرية المعنية بضمان ألا تسعى دولة لامتلاك تلك القدرات، وإلا نالها من العقاب الكثير والكثير.

لكن تلك العقوبات لم تمنع فعلياً من امتلاك كل من الهند وباكستان قدرات نووية عسكرية، أثبتتها التفجيرات التي قامت بها الدولتان في يونيو (حزيران) 1998، بفارق أسبوعين بين التفجير الهندي والتفجير الباكستاني. ورغم تلويح الولايات المتحدة آنذاك بتوقيع عقوبات على البلدين، لم يحدث الكثير في هذا المسار، وتم تقبل وضعية البلدين النووية كضمان لحالة ردع متبادل تَحُول دون تهور أحدهما بشن حرب على الطرف الآخر. وهنا بات الجدل بين الامتلاك وبين الاستخدام محسوماً، لصالح أن امتلاك قدرات عسكرية نووية لا يعني بالضرورة استخدامها الفعلي، حتى لو كانت القنبلة ذات قدرة محدودة، وأن الأمر يخضع لاعتبارات الردع المتبادل في مواجهة أطراف أخرى يمكنها أن تمثل تهديداً وجودياً.

وفي الواقع الروسي الراهن، وبعد الانغماس في الحرب ضد أوكرانيا، تبدو العقيدة الروسية قائمة على التهديد باستخدام أسلحة نووية ضد حلف «الناتو» في حال تعرضت الدولة الروسية لتهديد يُعد وجودياً، والأمر ذاته بالنسبة للعقيدة النووية لكوريا الشمالية، وهي الأكثر وضوحاً في هذا الشأن؛ حيث نص القانون الصادر في سبتمبر (أيلول) 2022، على أن البلاد نووية، وأنه أمر لا رجعة فيه، وأن مجرد التعرض لشخص قائد البلاد سوف يتبعه مباشرة استخدام أسلحة نووية ضد مصدر التهديد.

في منطقتنا المملوءة بالحروب والصراعات، ومشاريع الهيمنة من قبل أطراف مصطنعة ذات منحى همجي يناقض كل متطلبات الإنسانية، يتواتر الحديث عن تطوير إيران قدرات نووية عسكرية بدافع الردع. ووفقاً لمصادر روسية وصينية وأرمينية، فقد تم رصد هزة أرضية ليلة الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) بدرجة 4.5 على مقياس ريختر، مصدرها صحراء كوير في إيران، وهي صحراء ملحِية شديدة الجفاف ومرتفعة الحرارة، تقع في وسط الهضبة الإيرانية، تبعد نحو مائة كيلومتر من أحد المواقع النووية الإيرانية المنشأة بعمق ستين متراً تحت الأرض، ما رفع التكهنات بأنها هزة نتيجة لتجربة تفجير نووية؛ إذ لم تنتج عنها هزات ارتدادية معتادة في وقوع زلازل طبيعية.

لم تصرِّح المصادر الرسمية الإيرانية بأي شيء حول تلك الهزة الأرضية، وكأنها لم تحدث. الغموض هنا أمر متبع في كثير من الحالات التي تستهدف بناء قدرات نووية عسكرية، على الأقل في المراحل الأولى، تحسباً لردود فعل عكسية من القوى المحتكرة للسلاح النووي. لا يقف الأمر عند حد الغموض؛ لكن هناك حديثاً متصاعداً في الداخل الإيراني حول ضرورة تغيير العقيدة النووية للبلاد، والمستندة على فتوى المرشد الأعلى خامنئي منذ ديسمبر (كانون الأول) 2010، والتي ترى أن إنتاج واستخدام كل أنواع أسلحة الدمار الشامل نووية أو كيماوية أو بيولوجية هو أمر مُحرَّم، لما فيه من ضرر بالغ على الإنسان والبيئة.

المطالبون بالتغيير لهم دوافعهم، يمكن إجمالها في أربع نقاط: أولها أن أي فتوى هي نتاج بيئتها، وما كان قبل عقد ونصف عقد قد تغيَّر جذرياً، فالبلاد تواجه خطر التعرض لتدمير شامل، ما يستدعي تغيير طبيعة وقدرات الردع الدفاعي.

وثانيها أن الرأي العام يطالب -بقوة- بامتلاك قدرات نووية كمظلة حماية، وأيضاً لاستعادة الشعور بالأمان، فضلاً عن حماية النظام، وثالثها أن الإمكانات العلمية والتقنية الإيرانية نووياً لا بد من أن تصب في تعزيز القدرات الكلية للبلاد، ورابعها أنه من الضروري التفرقة بين امتلاك قنبلة نووية وبين استخدامها الفعلي، والذي سيكون مرهوناً بصد عدوان هائل لا تنفع معه قدرات عسكرية تقليدية أياً كان حجمها.

ما تجب ملاحظته أن الشعور بمواجهة خطر كبير يوصف بالوجودي يعد الدافع الرئيسي لكثير من المجتمعات للبحث عن قوة جبارة تتيح الشعور بالحماية. وهنا يبرز تشابه كبير بين حالات روسيا وباكستان وكوريا الشمالية، وأخيراً إيران.

ميدانياً، فإن التفجير النووي لا يعني بالضرورة التوصل إلى إنتاج رأس نووي يمكن وضعه في أحد وسائل التوصيل كالصواريخ، ولكنه يعني أن ثمة خطوة مهمة اتُّخذت في هذا المضمار. ونشير هنا إلى تصريح رئيس الاستخبارات الأميركية، ويليام بيرنز، الذي قال فيه إن إيران يمكنها صنع قنبلة نووية في غضون أسبوعين. والواضح من التصريح أنه يشد الانتباه إلى قدرات إيران النووية المحتملة عسكرياً وليست المؤكدة، وبما يعزز مطلب الرئيس بايدن من تل أبيب أن تبتعد تماماً عن قصف منشأة نووية إيرانية، إن أرادت الرد على الهجوم الإيراني الذي وقع في الأول من أكتوبر الحالي، لما في ذلك من مخاطرة كبرى، وردود فعل يصعب تصورها.