د. سعاد كريم
باحثة لبنانية
TT

كير ستارمر في ورطة

استمع إلى المقالة

أثار كير ستارمر، رئيس الوزراء البريطاني، دهشةً بعد أن أعرب عن قراره إزالة صورة رئيسة الوزراء السابقة البارونة مارغريت ثاتشر من مكتبه في «داونينغ ستريت»، كما أفادت وكالة الأنباء البريطانية «بي إيه ميديا»، معلّلاً ذلك لأسباب مختلفة، لكن كاتب سيرته، توم بالدوين، كان قد كشف في وقت سابق عن أن إزالة الصورة تعود لعدم شعور ستارمر بالراحة تجاه مارغريت ثاتشر، مما أثار جدلاً واسعاً بين السياسيين المعارضين والمعلّقين.

المحامي البارز ذو النزعة اليسارية، كير ستارمر، صعد في عمر الخمسينات إلى سدّة رئاسة الحزب ليصبح زعيماً لحزب «العمال» بعد الانتخابات العامة لعام 2019. كانت بداية عمله تغيير دفة الحزب من خط الزعيم السابق جيرمي كوربين الذي مثّل أقصى اليسار ليصبح أكثر وسطية، فهل هذه هي بداية التغيير؟

فاز ستارمر بقيادة حزب «العمال» بأجندة يسارية، خصوصاً في الشق الاقتصادي؛ إذ قام بوعود كثيرة قبل الانتخابات لزعامة الحزب، منها: تأمين شركات الطاقة والمياه، وتعليم جامعي مجاني، ورفع الضرائب، والزيادة في الإنفاق العمومي لتحسين الخدمات الصحية والتعليمية، وكذلك زيادة في دعم الأسر الفقيرة و... و... و... والآن يلوح بزيادات ضريبية مختلفة، وسياسة تقشفية، وحذف بعض الدعم لكبار السن بدلاً من زيادته، والدعم على فاتورة التدفئة، وسحب البطاقة المجانية للنقل بالنسبة للمتقاعدين، ووعود كاذبة كان قد وعد بها، وربما يعد بها، فكيف سيحصل على ثقة السياسيين بحزبه وفي عقر داره أولاً، والبريطانيين ثانياً، بعد أن تخلى عن وعوده التي كان قد وعد بها؟!

ولكن التساؤل: لماذا أثارت صورة ثاتشر حفيظة ستارمر لتجعله يقرر إزالتها من مكتبه؟ هل هي المنافسة؟ أهي الغيرة؟ هل هو البرنامج الاقتصادي؟ هل هو غير ذلك؟ فمن هي مارغريت ثاتشر؟

فازت ثاتشر بالانتخابات التي جرت على قيادة حزب المحافظين عام 1975 عندما هزمت إدوارد هيث، فكانت المرأة الأولى التي تتزّعم حزباً سياسياً - حزب المحافظين - في تاريخ بريطانيا، والشخصية البريطانية الأولى التي تفوز في ثلاث دورات انتخابية متتالية، امرأة في بريطانيا تتبوّأ منصب رئيسة الوزراء، في بريطانيا (1979 - 1991) وفي أوروبا. وفي عام 1992 مُنحت لقب «بارونة» فأصبحت عضواً في مجلس اللوردات.

بدأت مسيرة التغيير على الصعيد الداخلي، حيث فرضت على حزب «العمال» تغيير وجهته الاقتصادية من الاشتراكية الديمقراطية إلى الرأسمالية الاجتماعية، كما أحدثت انقلاباً في قواعد اللعبة السياسية عندما أضعفت الحركة النقابية بقوانين تفرض عليها قيوداً ديمقراطية، وحدّثت الاقتصاد البريطاني. لعلّ أهم ما قامت به من إنجازات هو تطبيق سياسات تُعرف بـ«الثاتشرية»، Thatcherism.

اعتمدت ثاتشر فلسفة الثاتشرية التي تُبنى على الفردية والخصوصية، فلا وجود لما يُسمى «مجتمع» في نظرها، إلى حدّ أنها تجاوزت كل الخطوط والحدود والمبادئ، ورأت أن آدم سميث الملقب بـ«أبو الاقتصاد» الذي يرى أن مصلحة الفرد أهم من مصلحة المجتمع، فتجاوزته، لافتة إلى أنه كان «معتدلاً» أكثر من اللازم في مسألة الفرد والمجتمع، وهي التي تؤمن بأنه «لا يوجد ما يسمى مجتمعاً». فآمنت «المرأة الحديدية»، السابحة ضدّ التيار، والتي عملت على تحفيز الاقتصاد وخلق الثروة، بالمنافسة والتحرر الاقتصادي، وأوجزت أن اقتصاد السوق الحر هو أفضل السبل لتحديث البلاد، لافتة إلى أن هيمنة الحكومة على الاقتصاد أوقفت النمو وعطّلت الابتكار في بريطانيا، فأعلنت برنامجاً موسعاً للخصخصة يهدف إلى القضاء على قوى الشركات الكبرى التابعة للدولة. وكذلك بالنسبة للشركات الاحتكارية، فعملت على إشراك قوى السوق في تحويل الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم، ما أكسبها تقديراً شعبياً واسعاً شبيهاً بالتقدير الشعبي الذي اكتسبته بعد حرب الفوكلاند.

سقطت المرأة الحديدية التي وعدت باستعادة عظمة بريطانيا، في آخر أيام ولايتها بسبب فرض ضريبة الاقتراع المحلية ما سبّب نفور العديد من الناخبين المحافظين وأعضاء البرلمان، فانسحبت من الجولة الثانية من التصويت، منهية بذلك فترة حكم دامت أحد عشر عاماً متتالية، ومع ذلك استمرت في نشاطها السياسي خلال ولاية جون ميجور، حتى انكفأت شيئاً فشيئاً، وأصيبت بعدها بسكتة دماغية سببت لها الوفاة عام 2013.

في النهاية نوجز بأن الاقتصاد البريطاني يعاني، والوضع الاقتصادي بحاجة إلى تعاون من الجميع من أجل تصويب الأمور. سيعلن كير ستارمر عن الميزانية الأولى لحكومة حزب «العمال» قريباً، وهذه ستحدد ملامح السياسة الاقتصادية لهذه الحكومة، لننتظر ونرَ ماذا ستحمل وتؤول إليه هذه الميزانية. وعندها يصبح بالإمكان تحديد هذه السياسة.

ستارمر الذي يَعِد بخلق الثروة وتحفيز الاقتصاد، كيف سيتعامل مع الاقتصاد المتهاوي؟ وإلى أي مدى ستكون الإجراءات صعبة ومؤلمة خاصة بعد صدور الميزانية الجديدة؟ وهل سيستطيع النهوض بالاقتصاد من غير اللجوء إلى تدابير تقشفية؟!