توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

العقل المساير والعقل المتمرد

استمع إلى المقالة

ذكرت في مقال الأسبوع الماضي أن عقل الإنسان ليس مرتبة واحدة. فثمة عقل عملي يدير حياتك اليومية، وثمة عقل نظري يتأمل حقائق الأشياء ويفكك معانيها.

هذا التقسيم ليس جديداً، فقد شاع في كتابات الفلاسفة اليونانيين، ومنهم انتقل إلى علماء المسلمين، على يد أبي نصر الفارابي، كما أظن. واشتُهر الفارابي بلقب «المعلم الثاني» مقارنة بأرسطو المعروف باسم المعلم الأول، وقد جمع تعريفات العقل من مختلف كتب أرسطو، ورتّبها بإيجاز في رسالته المعروفة باسم «رسالة في العقل».

وثمة مؤشرات إلى أن هذا التقسيم، إضافة إلى القول بالعقل الفطري، كان معروفاً في عصر الإسلام الأول، قبل تعرف المسلمين على الفلسفة اليونانية، حيث تظهر نصوص صريحة وإشارات قوية للمستويات الثلاثة في روايات عن النبي محمد - عليه الصلاة والسلام - وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وآخرين، وجميعها منشورة، ومنها ما هو قوي الإسناد ومنها الضعيف.

وأشارت الروايات إلى العقل الفطري باسم عقل الطبع أو العقل المطبوع، أي السابق للتجربة. وأشير إليه في الفلسفة المعاصرة باسم «المبادئ القبلية». وهي – في الأصل - مجموعة القواعد التي يولَد الإنسان وهو مجهَّز بها تكوينياً، وتعدّ لازمة كي يخطو خطواته الأولى في الحياة، ومنها الغرائز الضرورية للبقاء على قيد الحياة، ومنها التمييز بين البشر (الأم والأب مثلاً) وبين الجمادات. وكذا طريقة التعبير عن الفرح والألم، وأمثال ذلك. لكن الفلاسفة أضافوا إليها أيضاً قضايا عقلية بحتة، مثل إدراك العقل لاستحالة اجتماع المتناقضات وربطه بين الحدث وسببه، وأمثال ذلك. والمفهوم أن هذه القضايا، وإن أدركها الإنسان بالحدس، إلا أنها لا تتبلور وتتضح قبل سن الرشد. ورفض الفلاسفة التجريبيون مثل جون لوك وديفيد هيوم هذا الرأي؛ بناءً على أن كل المسائل العقلية نتاج للتجربة، ولم يكن في العقل قبل ذلك سوى الغرائز البحتة، التي لم يعدّوها عمليات عقلية بالمعنى المتعارف.

ثم نأتي إلى التقسيم الثنائي بين العقلين النظري والعملي. أما العقل العملي فهو الذي يستعمله الناس كافة من دون استثناء. ولا أظن أحداً لا يستعمل هذا المستوى، فهو يحتاج إليه في كل جزء من أجزاء حياته، من المأكل والملبس إلى الوظيفة والعلاقة مع الناس وغيرها. وحين نتحدث عن خضوع الإنسان لإملاءات الجماعة وانسياقه مع الحشد (سلوك القطيع)، فإننا نتحدث عن هذا المستوى من التعقل، أي التعقل المستعمل عادة في تدبير الحياة اليومية المنتظمة، وهو – بالتعريف – محدد في إطار العلاقة مع المحيط الطبيعي أو الاجتماعي، انفعالاً بمقتضياته أو تفاعلاً معها.

أما العقل النظري، فإنه يستعمل في أبسط مستوياته عند غالبية الناس، حين يواجهون مشكلات فيسعون للبحث عن حلول، من خارج الصندوق كما يقال، أي حلول غير معتادة أو متعارفة، لمشاكل حياتية أو وظيفية أو معرفية، حين يجب على الإنسان أن يتخلص من تناقضات في فكرة أو في موقف.

أما في المستويات الأعلى، فلن تجد إلا «زبدة الزبدة» كما يقول الفرنسيون، أي زبدة العلماء والمخترعين والمكتشفين والفنانين والفلاسفة والخبراء ورجال المال والسياسة.

إن تميز هذه الفئة القليلة عن عشرات الملايين من أصحاب العقول في شرق الأرض وغربها، لم يأتِ اعتباطاً ولا لأنهم يملكون واسطة قوية، بل لأنهم نجحوا في اختراق جدار المألوف والمعتاد، وطرحوا أفكاراً جديدة تسهم في تغيير مسار الملايين من الناس وتحسين حياتهم. وجود هذه الفئة على وجه الخصوص، ووجود المبدعين وأهل العلم عموماً، دليل على القيمة العظيمة للعقل ودوره في تغيير الحياة، وهو دعوة لكل عاقل كي يثق في العقل وقدرته على تغيير الحياة، وهو – بطبيعة الحال – رد على أولئك المرتابين في قابليته لإدارة المجتمع البشري وإصلاحه.