ممدوح المهيني
إعلامي وكاتب سعودي. مدير قناتي «العربية» و«الحدث» كتب في العديد من الصحف السعودية المحلية منها جريدة الرياض، ومجلة «المجلة» الصادرة في لندن. كما عمل مراسلاً لـ«الشرق الأوسط» في واشنطن. وهو خريج جامعة جورج ميسون بالولايات المتحدة.
TT

«الصحّافيون» يتفوقون على «الصحّاف»

استمع إلى المقالة

بعد أن نشرت مقال: «الصحّاف الأخير»، وصل إليَّ رد يعاتب على ضرب المثال بوزير الإعلام العراقي الشهير محمد الصحّاف على اعتبار أنه كان موظفاً ويؤدي عمله، ولم يكن أمامه في نظام «البعث» إلا أن يردد المعلومات المضللة وإلا فقد حياته.

الإشكالية في هذا الرد أن الصحّاف و«الصحّافية» تحولت إلى ظاهرة وحالة تتجاوز الفرد. ومع هذا يمكن القول إن الصحّاف نفسه كان يؤدي مهنته ولا نعرف فعلاً ماذا كان سيفعل لو كان يملك الحرية ولم يكن مجبراً على بث تلك المعلومات المزيفة. ولسنا متيقنين على وجه الدقة إذا كان مؤمناً بما قال أم لا.

ولكن إذا قارنَّا الصحّاف بمن أتوا بعده من «الصحّافيين» الذين نراهم يومياً، فليس من المبالغة لو قلنا إنه سيبدو صحافياً أكثر مهنية منهم رغم مبالغاته. لقد تجاوز «الصحّافيون» الصحّاف وتفوقوا عليه، وذلك على أربع مستويات: حجم الدعاية، والتأثير، والإرادة، والمردود المالي.

أولاً- حجم الدعاية: كل الوقت الذي قضاه الصحّاف في ترديد دعايته المضللة مجرد ثلاثة أسابيع؛ من دخول القوات الأميركية إلى العراق حتى سقوط بغداد. وهذا يعني أن حجم الدعاية محدود بالمدة الزمنية. وقد شاهدت مجدداً مؤتمراته الصحافية وهو يتحدث بلغة خطابية إنشائية نتذكر منها عبارات، مثل «ينتحرون على أسوار بغداد» و«المجرم بوش الصغير»، ووصفه الشهير للجنود الأميركيين بـ«العلوج». عملياً ما قدمه الصحّاف كان خطباً دعائية منبرية وليس تحليلاً عسكرياً مفصلاً.

«الصحّافيون» بعده وزّعوا كماً كبيراً من الأكاذيب لوقت طويل امتد لأشهر وليست أسابيع. تقريباً كل المعلومات التي ذكروها خاطئة وغير دقيقة. كل التحليلات العسكرية تحولت إلى عكسها. كل التنبؤات وقراءة مستقبل المعارك ثبت أنها قراءات رغبوية تقترب من الخرافة. الصحّاف نفسه لم يصل إلى هذا المستوى ولم يقدم نفسه بصفته لواء وجنرالاً وخبيراً يعرف سير المعارك واستراتيجيات الحروب وإنما وزير إعلام ردد معلومات مطلوبة منه لرفع الروح المعنوية.

ثانياً- التأثير: رغم أن الصحّاف ردَّد دعاية مضللة فإنه لم تنتج عنها أضرار عملية. لا نتوقع أن أحداً سمع حديث الصحّاف وقرر أن يأخذ بندقيته (ما عدا الفلاح منقاش الذي اعترف لاحقاً بأنه فبرك روايته حول إسقاط طائرة الأباتشي) وهاجم جحافل القوات الأميركية الزاحفة على بغداد، معتقداً أن لديها مناطق أو خواصر رخوة يستطيع أن يهاجمها من خلالها ويقضي عليها. وبسبب المدة القصيرة، من المشكوك فيه أن هذا التضليل تسبب في قتل أحد أو أقنع الأميركيين بأن هناك فعلاً مقاومة شرسة، واستخدموا القوة المفرطة للقضاء عليها وذهب ضحية ذلك مدنيون. لا يوجد أيضاً مدنيون عراقيون قُتلوا بسبب دعاية الصحّاف، وإنما قُتلوا لاحقاً لأسباب أخرى لا علاقة له بها. هذا على العكس من «الصحّافيين» الذين جاءوا بعده وتفوقوا عليه. التأثير بدعايتهم المضللة تسبب في قتل آلاف المدنيين الذين اعتقدوا أنهم في أمان وأن الأمور تسير في صالحهم وأن معارك من مسافة صفر تعني انتصارهم الوشيك. ليجدوا أنفسهم تحت القصف وفي مرمى النيران. الكذب في الإعلام سيئ بشكل عام والأسوأ في وقت الحروب لأن الناس يفقدون حياتهم وبيوتهم الآمنة ويعيشون مشردين في الخيام والعراء. المسألة ليست نزهة، ودور الصحّافيين أن يقدموا لهم المعلومات الدقيقة لأنها قد تكون السبب في نجاتهم أو على الأقل معرفة ما يدور حولهم. وعادةً مَن يغضب من تقديم المعلومات الصحيحة هم الناس البعيدون الذين يعيشون مع أطفالهم بسلام ودعة، وليس الناس الذين هم تحت القصف ووسط لهب النيران. أضف إلى ذلك أن المعلومات غير الدقيقة بتضخيم دور المواجهة قد يبرر استخدام القوة العنيفة الوحشية للقضاء على مصادر التهديد المحتملة، وعادةً ما يدفع المدنيون الثمن. والتضخيم يُستخدم أيضاً سياسياً وإعلامياً. أي إن «الصحّافيين» يقدمون بسذاجة وغباء خدمة مجانية وذخيرة دعائية للطرف الآخر، والمدنيون هم الضحايا.

ثالثاً- الإرادة: تحب أو تكره الصحّاف. تتفق أو تختلف معه. إلا أننا نعرف أنه كان منزوع الإرادة ولم يكن بمقدوره إلا أن يفعل ما فعله. لو كان أيُّ أحد منَّا في مكانه ويتخيل شكل المشنقة التي سيعلَّق فيها لو أدلى بتصريحات غير المتفق عليها، فمن المرجح أننا كنا سنردد أكاذيب أكثر من تلك التي قالها حتى ننجو بجلدنا. من المهم وضع هذا في الحسبان حتى نحكم عليه. ولا ننسى أن الصحّاف كان داخل العراق وليس خارجه. أي إنه كان يتحدث والصواريخ تسقط حوله وليس من خارج بغداد. كل ما سبق يمثل عكسه تماماً «الصحّافيون»؛ فهم في الخارج مرتاحون ويحللون من الاستوديوهات المكيفة، ويتصرفون ويعملون بإرادتهم الكاملة، ولا أحد يصوِّب المسدس إلى رؤوسهم ويُجبرهم على تقديم معلومات مزيَّفة. وغالباً هم لا ينتمون إلى البلد وأبنائه الذين يواجهون الكارثة، وفي مرات كثيرة نراهم يخونونهم ويصفونهم بالعمالة والخيانة لمجرد الاختلاف معهم. أي إن الذي يعيش في أمان وراحة ويتكسب شعبوياً يخون من يعيش تحت القصف وفقد نصف عائلته. الصحّاف لم يصل أبداً إلى هذا المستوى!

رابعاً- المردود المالي: الصحّاف لم يحصل على أموال ولم يسكن فنادق ولم يعامَل على أنه فاتح نظير دعايته. لم يمضِ وقت طويل حتى غادر العراق وعاش منعزلاً ولم يعرف عنه أحد الكثير بعد ذلك. وقد تحوّل إلى رمز للتضليل والدعاية الكاذبة رغم أنه لم يفعل ربع ما فعله مَن أتوا بعده. خرج بلا مال ولا سمعة. ولكنّ «الصحّافيين» من بعده حصلوا على المال في الوقت الذي يطالبون الآخرين الذين لا يجدون ما يأكلون بالصمود، وحصلوا على شهرة وهم مجهولون في السابق.

«الصحّافيون» أداة وبوق لن تجدهما إلا في وسائل الإعلام الدعائية الرديئة. لا تهتم بالمعايير الصحافية حتى في أبسط صورها التي تعني نقل ما يحدث على الواقع وما يمر به الناس. وستجد دائماً «صحّافياً»، تحشو جيوب بدلته الأنيقة بالمال الملطخ بالدم، ليردد ما تريد قوله، حتى لو كان على حساب أهالي القتلى والمصابين والأطفال المشردين الجائعين الهائمين على وجوهم بحثاً عن مأوى وطعام.