سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

انتصار محمد يونس

استمع إلى المقالة

وسط المشاهد القاتمة، يأتينا بصيصُ أملٍ من بنغلاديش، بلد الفيضانات والأعاصير التي ارتبطت أخبارها طويلاً بالفقر والمجاعات والانهيارات الأرضية، والانقلابات، لكن أيضاً بالقفزات الطموحة، من تعليم ونمو فاقا التوقعات، وقيل إنها ستلحق بالنمور الآسيوية.

سجلت رئيسة الوزراء المستقيلة قسراً، الشيخة حسينة، في سنوات حكمها، خطوات اقتصادية جبّارة، وشهد لها العالم بقدرتها على نقل بلادها صوب استقرار وأمن نادرين. لكنها في النهاية، افترت، وطغت، واتكأت على 15 عاماً في السلطة، وسطوة قوى الأمن ثم الجيش، كي تقمع، وتسكت، وتخفي من يعاندها.

تحرك طلاب الجامعات بعد أن بطشت الشيخة، وظنَّت أنها ورثت العباد عن والدها الزعيم مجيب عبد الرحمن، فسجنت المعارضين، وعاقبت الصحافيين، وكبحت الحريات، وكان ينتظر منها أن تعمل حكمتها وتظهر تسامحها.

الغضب اجتاح الشوارع، وحين خضعت لبعض المطالب بعد أن سالت دماء 300 ضحية، لا سيما إلغاء الحصص في التوظيفات المخصصة لعائلات المحاربين القدامى وذوي النفوذ، وسط بطالة متصاعدة، كان الوقت قد تأخر.

نجت بنفسها الشيخة حين هربت مع شقيقتها إلى الجارة الهند، قبل أن يكتسح المحتجون مقر إقامتها، وأعفت بلادها من أزمة دستورية، والهند من محنة دبلوماسية، حين استقالت.

لا بد أن تشعر بالفرح، لو كنت من دولة، قام جلّ شعبها ذات يوم، بكباره وصغاره، وتظاهر وهتف لشهور ضد استبداد السلطة، ولم يتغير شيء. أما طلَّاب بنغلاديش فكانت قوتهم، في وحدتهم، ورفضهم حكماً انتقالياً للجيش، مطالبين برجل واحد، قلة من اختلفوا على دوره النبيل في تقدم البلاد وتطورها، هو البروفسور محمد يونس، حامل جائزة نوبل للسلام.

الرجل الذي خشيته الشيخة حسينة يوم بدأت تنمو عضلاتها، ومع ذلك صارت تخشى ظلها، فاتهمته بالفساد، وهي ترى فوران شعبيته وتنامي مؤيديه، وخطيئته، أنه فكّر، ذات مرة، بتأسيس حزب سياسي. وجهت ليونس الذي ألهم العالم أجمع بإبداعه الاقتصادي، ما يزيد على مائة تهمة، أقلها «امتصاص دماء الفقراء»، وكلها تدور في فلك الفساد وانتهاك قانون العمل. أدين يونس بالسجن لستة أشهر مع وقف التنفيذ. عدّت المحاكمة «مهزلة قضائية» ورأى محامي يونس أن الشيخة «أرادت الانتقام منه سياسياً، وإذلاله أمام العالم أجمع».

هذا رجل تحركه إنسانيته. حين عاد بعد حصوله على الدكتوراه من أميركا أستاذاً جامعياً، شعر بعجز وعقم كل النظريات التي تعلمها في الكتب. مليون ونصف المليون جائع في مطلع السبعينات قضوا في بنغلاديش أمام أعين يونس، قرر أن يترك الصفوف والكتب، وينزل إلى الأرض، يسأل الناس عما بمقدوره أن يفعل لمساعدتهم. بدأ بقرية واحدة هي «غوبرا». تبين له أن الديون الصغيرة والمرابين، يخنقون السكان، وأن 43 شخصاً قد لا تزيد ديونهم على 27 دولاراً، فأقرضهم من جيبه، واسترد قروضه. أسس بنكه الشهير «غرامين» أو «بنك القرية» الذي تقاسم معه نوبل، وبقروض غاية في الصغر، طويلة الأمد، دون ضمانات تقليدية، انتشل ملايين من مواطنيه من غائلة العوز. لا تتوقف عبقرية يونس على فكرة الإقراض نفسها، بل على ابتكاره، ضوابط محلية نابعة من طبيعة مجتمعه، كي يلزم المستدينين إعادة ما اقترضوه، وتفضيله مساعدة النساء على الرجال، بعدّهن عماد البيت والقادرات على تنشئة الأطفال، والتضحية من أجلهن.

هذه الرؤية الفذّة، الطالعة من احتياجات المجتمع اللصيقة، استنسخت من مصارف في أكثر من أربعين دولة، وعُدّت إنجازاً عالمياً في الفكر الاقتصادي، من رجل أثبت أن عالماً خالياً من الفقر، هو أمر ممكن.

وسّع يونس، نشاطاته، وبلغت قروضه مليارات، شملت التعليم والصحة والسكن، والزراعة ووظفت بنوكه أكثر من مليوني شخص. إنما الشيخة حسينة، لم ترتح يوماً لهذا الرجل الطموح، فقررت أن تحيله إلى التقاعد.

رحلة محمد يونس لم تنته، واحترام مواطنيه له، أعاده إلى الواجهة. ها هو يتم اختياره لتشكيل حكومة انتقالية، تنقذ البلاد من مخلفات أحقاد الشيخة حسينة، وإخفاقاتها الثقيلة، دون أن يؤسس حزباً.

يونس الذي صنع معجزة اقتصادية في أكثر دول العالم فقراً، لعله ينجح في أن يزيح عن بنغلاديش وصمة البلاد «الأكثر فساداً». فتلك كارثة لم تتمكن من القضاء عليها عهود الحكم المتعاقبة. الرجل «مصرفي الفقراء» في الرابعة والثمانين من العمر، يقبل بحماسة الشباب على مهمة قاسية، لإنقاذ بنية إدارية متهالكة، وثلاثين مليون عاطل عن العمل، وإنصاف مساجين رأي بالمئات، والعثور على مفقودين لا يعرف إن كانوا أحياءً أو أمواتاً، ودولة عميقة، ليست بالضرورة مؤيدة له.