د. عبد الغني الكندي
أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية - جامعة الملك سعود
TT

أذن ترمب وأذان مكبرات غزة

استمع إلى المقالة

هل من العدالة أن يسلط ضوء الإعلام العالمي تركيزه على إصابة أذن ترمب في ذات اللحظة التي يصمت فيها على قتل مئات الضحايا والأبرياء في غزة؟ ومن الممكن توسيع نطاق عدسة الكاميرا الصامتة لتشمل مئات القتلى في السودان وسوريا وغيرها من الدول. هذا السؤال في شكله وظاهره يبدو منطقياً وعقلانياً، ولكن في جوهره وباطنه لا يبدو كذلك. فإذا كانت الإجابة تخضع لمقاييس المنظومة الأخلاقية والعدالة الإنسانية فمن المنطقي أن تهتم النشرات الإخبارية بالمجموع على حساب الفرد، والكل على الجزء، وبضحايا غزة على أذن ترمب. ولكن إن تغيرت مرجعية هذه المقاييس وحلت السياسة محل القيم الأخلاقية والعدالة الإنسانية، فإن محور الاهتمام سينتقل من معايير العدالة إلى حسابات القوة والمصلحة، وسيصبح التركيز على أذن ترمب أكثر منطقية من تسليط الضوء على استشهاد أطفال وأبرياء غزة.

فالسياسة بطبيعتها لعبة لا أخلاقية، وبنيتها وجوهر العدالة فيها وفصل الخطاب بشأنها هي «القوة». وتقاس العدالة والأخلاق في السياسة بمقدار ما تستحوذ عليه الدولة من مصادر القوة، وبما توظفه من آليات وأدوات سياسية لمراكمة مزيد من عناصرها بما فيها الأدوات المالية، والحقوقية، والدينية، والأخلاقية، والآيديولوجية. فهذه الأدوات مجرد بيادق على رقعة شطرنج صانع القرار يحركها في الاتجاه الذي يُعظمُ فيه من مصادر قوته. وضمن هذا الفهم فإن المرشح للرئاسة الأميركية الرئيس السابق دونالد ترمب يرمز «للقوة الأميركية» وشرطي العالم، في حين أن غزة وضحاياها مجرد علامات رمزية «للضعف والانقسام الفلسطيني». ودائماً القوة عنصر جذاب في كل شيء بما في ذلك صور العدالة الإنسانية التي تميل نحو رجحان حقوق القوي على الضعيف في موازين السياسة والعلاقات الدولية. وهذا الدرس الذي لم يستوعبه قادة «حماس»، وكثير من الأخلاقيين، وأصحاب الضمير الإنساني، والانتهازيين الحنجوريين الذين يهيجون ويعبئون مستضعفي غزة ليكونوا وقوداً وحطباً لنيران معركة غير متكافئة.

فقبل معركة غزة كانت كل أشكال وموازين القوة المادية والعسكرية والسياسية تميل كل الميل لصالح إسرائيل. ولم يكن من العقلانية في شيء دخول «حماس» في معادلات عسكرية يكون قادتها طرفاً ضعيفاً فيها وبلا مخالب، ومن دون ضمانات وتحالفات دولية تتكفلهم بالدعم والحماية الأمنية؛ لأن التكلفة النهائية من القتلى والضحايا ستكون وخيمة وكارثية على الطرف غير المتسلح بممكنات القوة العسكرية والمادية. والأثر النبوي والشواهد التاريخية كلها تُجمعُ على أن الرسول لم يدخل في حرب مسلحة ضد قريش إلا بعد أن استكمل كل عناصر القوة بالمدينة، لأنه كان مدركاً لعواقب الدخول في حرب يكون فيها طرفاً ضعيفاً. ولو كان الدعاء غير المصحوب بأسباب القوة كفيلاً بالنصر لاكتفى الرسول بهذه الشعيرة من دون أن يهاجر للمدينة بهدف التمكين المادي والعسكري، وصناعة التحالفات السياسية، حتى يدخل مكة فاتحاً منتصراً بأقل الخسائر والتكاليف البشرية والمادية. ولو كان الاتكال على الدعاء حصراً معياراً للنصر، والتواكل على السماء من دون الأرض، واللامبالاة بتكلفة الخسائر الإنسانية والمادية، لكان الرسول قد استنفر أتباعه المستضعفين في مكة إلى القتال دفاعاً عن والدي عمار بن ياسر وهو يمر بهم وهم يعذبون وينكل بهم ويُقتلُون من سادتهم مكتفياً بمواساتهم بقوله: «صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة»، وتُوِجت سمية أم عمار بهذا الموقف بلقب أول شهيدة في الإسلام. فإدراكاً منه بأن الدعاء غير المصحوب بالعمل من أسباب التواكل المنبوذ الذي لن يفضي إلى النصر، وأن التغيير الإلهي مشروط بالتغيير من الأنفس ابتداءً، فكان صبر الرسول استراتيجياً على ظلم واضطهاد قريش. ووصل الأمر إلى مهادنتهم في صلح الحديبية حتى يغير معادلات الصراع العسكري في المدينة، والعودة بعد ذلك إلى مكة فاتحاً ومنتصراً ضد كل من حاربوا دعوته، والمنكلين بأتباعه المستضعفين في مكة.

وفي حقيقة الأمر، فإن النقاش حول ماهية العدالة وعلاقتها بالقوة والمصلحة ليست وليدة لحظة الأثر النبوي، بل هي محل جدل فلسفي منذ أكثر من ألفي عام. ففي حوار سقراط مع تلاميذه عن ماهية العدالة، أجاب أحد التلاميذ السفسطائيين ثراسيماخس بأنها «مصلحة الأقوى، والحق للقوة». وفي التراث الإسلامي عندما سُئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزو؟ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه، لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيُغزى مع القوي الفاجر. ويذهب ابن خلدون إلى أبعد من ذلك فيرى أن عدالة الدعوى الدينية لا تفضي بالضرورة إلى انتشارها؛ لأن «الدعوة الدينية من غير عصبية (قوة) لا تتم»، وهو هنا لا يختلف كثيراً عن ميكافيلي الذي أكد أن «التاريخ انتصر للأنبياء المسلحين، في حين فشل الأنبياء غير المسلحين».

أما في التراث الغربي الحديث، فالربط بين القوة شرطاً للعدالة كان واضحاً نظرياً وتجريبياً. فعلى الصعيد التجريبي عندما سأل أحد الجنود نابليون بونابرت قبيل اندلاع معركة «واترلو»: هل الله معنا نحن الكاثوليك، أم مع الإنجليز البروتستانت؟! فأجابه: «الله مع صاحب المدفع الأكبر». أما على الصعيد النظري، وفي صورة أكثر تعبيرية وتحمل في طياتها الكثير من المعاني والدلالات الرمزية، يشير ويل ديورانت إلى أن الأرانب عندما اجتمعت مع الأسود في الغابة من أجل مطالبتها بالعدالة في توزيع عملية الثقل التصويتي، أجابتها الأسود: «وأين مخالبك؟». وفي صدد الدلالة الإشارية لصورة المخالب التي ترمز إلى القوة، لربما كان فيلسوف العدمية الكبير نيتشه الأقرب إلى كشف الصورة الواقعية والتراجيدية التي تربط بين العدالة والقوة. فقد أشار نيتشه إلى أن إرادة القوة هي معيار الحقيقة والعدالة، وأن القيم الأخلاقية والعدالة الإنسانية والقوانين مجرد شعارات ذرائعية وآيديولوجية يوظفها الضعفاء لانتزاع مخالب الأقوياء، فيقول في هذا الصدد: «كم هزئت من الضعفاء الذين يظنون أنفسهم أخياراً لأنهم من دون مخالب!». وبهذا المعنى، فالمنظمات الدولية والتنظيمات الحقوقية ليست إلا حائط مبكى وأدوات أخلاقية تلجأ إليها الدول الضعيفة لتحقيق العدالة الدولية، في حين أن الدول القوية ترى العدالة الدولية في مراكمة المزيد من عناصر القوة بما في ذلك توظيف التنظيمات الحقوقية والأدوات الأخلاقية والدينية لتحقيق مصالحها وتعظيم مصادر قوتها الوطنية. أما على مستوى الأفراد، فالمؤمن الضعيف الأعزل أمام مقارعة الأسود سيكون في موقف أكثر ضعفاً من الفاسق المتسلح بالبندقية أو المخالب. والدعاء الذي سيعتصم به الفرد بوصفه شعيرة أخلاقية للنجاة ومقاومة هذا الأسد، وغير ذلك من مواجهات تحتمها تحديات صروف الحياة، لن يفضي إلى نتائج حقيقية إن اتخذ صورة التواكل، وترك الأسباب الموضوعية، وتجاهل القوانين الطبيعية، والتخلف عن العمل، والظفر بأسباب القوة. وفي هذه الحال سيظل الدعاء المجرد من المخالب طقوساً رهبانية متشحة بسواد الخرافة والأسطورة، ولا يستقيم أثرها إلا مع تصوف لا عقلاني منهيّ عنه شرعاً وعقلاً.

طبعاً، وبشكل قطعي، هذا لا يعني التخلف عن الدعاء وانتفاء النظر إليه بوصفه عنصراً جوهرياً في طلب الاستغاثة والنجاة والنصر، ولكن التواكل عليه حصراً من دون الأخذ بعلله وشروطه والتي من أهمها بذل الأسباب في نيل الشوكة والقوة، لن يؤدي إلى النصر والغلبة المنشودة. والمقاومة ضد الاحتلال حق مشروع وعملية مبررة وكفلتها كل الشرائع السماوية والقوانين الطبيعية والوضعية. بيْد أن هذه المقاومة مشروطة بعقلانية الموازنة بين الدعاء وبذل الأسباب للاستجابة الربانية، وألا تنخرط في صراع دموي من موقف أخلاقي هش وضعيف، ومن دون مخالب عسكرية مكافئة للخصم حتى لا تكون تكلفة الحرب كارثية على الصعيد البشري والمادي. كحال الرسول الذي لم يقرر فتح مكة إلا بعد التمكين السياسي، وبناء دولته القوية، وامتلاك كل مقومات الانتصار بالمدينة، وتخفيف تكاليف عواقب الحرب مادياً وبشرياً، من دون تواكل وتحميل للمسؤولية على الآخرين. ومن هنا كان على «حماس» التأسي بالأثر النبوي قبل أن تنخرط في صراع عسكري لقضية عادلة، ولكنها ضعيفة، ضد دولة تنطلق من قضية ظالمة، ولكنها قوية وبمخالب نووية. وكان حري بها ألا تكتفي بمآذن المساجد للدعاء، من دون أن يماثلها نصب صواريخ فتاكة في الثكنات العسكرية، ولو استلزم ذلك صبراً استراتيجياً وخططاً بعيدة المدى، محاكِية للتجربة النبوية، حتى يستجيب لها ضمير العالم، ويصبح للشهداء الأبرياء معنى وقيمة مكافئة، ولربما أكثر أهمية من أذن ترمب في الواقع السياسي والمشهد الإعلامي.