حان الوقت لإنقاذ السودان من نفسه، لم يعد هناك وقت لمشاهدة كل صنوف التخريب والفوضى والقتل والاقتتال خلال هذه الحرب التي اندلعت في الخامس عشر من أبريل (نيسان) عام 2023. الحرب تقريباً أكلت الأخضر واليابس، بلغ منسوب الخسائر أقصى مدى على كل المستويات.
وجود السودان أصبح على المحك شعباً وقيادة ودولة، فإذا استمرت الحرب أطول من هذا، فإن التفتيت والتقسيم سيكونان مصير السودان، وصولاً إلى خطر أكبر، وهو اندفاع قوى خارجية قد تعمل على تصفية الوجود السوداني، فالمسرح مهيأ للاعبين من خارج الإقليم، ويعملون على تغذية الحرب، بكل ما يملكون من ألاعيب.
إن ما يجري في السودان هو مسار واجهته المنطقة طوال السنوات العشر الماضية، وهذا المسار دمر دولاً وشعوباً، وأدخلها في نفق مظلم لم تخرج منه حتى الآن.
من البديهي أن يكون السودان هو المجال الحيوي والاستراتيجي لمصر، كما أنه المجال الحيوي للإقليم العربي في العمق الأفريقي، والرابط الأهم بين آسيا وأفريقيا العربيتين، ويحظى بمكانة تاريخية داخل كل المحطات التي مرت على المنطقة العربية، فقد كان شريكاً في رحلة التحرر الوطني من الاستعمار والاستقلال، والانخراط الكامل في القضايا العربية، كان التجلي الأكبر في استضافته للكلية الحربية، وعقد قمة اللاءات الثلاث في الخرطوم بعد نكسة عام 1967.
لا ننسى انخراط السودان في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، جنباً إلى جنب مع الأشقاء العرب جميعاً في نصر السادس من أكتوبر، والسودان لم يتخلَّ قط عن الانخراط الفعال في كل قضايا العرب، لذا فإن استقرار السودان، لهو أمر استراتيجي لكل العرب والأفارقة، ولا شك في أن دول جوار السودان السبع تعاني أزمات اللاجئين والنازحين الذين يربو عددهم على عشرة ملايين سوداني، غير أن هناك خطراً آخر، قد يتعلق بتكوين خلايا وتنظيمات إرهابية، تستغل المعارك الضارية بين المتحاربين، بهدف إحكام السيطرة على الشعب السوداني أولاً، ثم اندفاعها خارج الحدود إلى دول الجوار.
هذه الصورة البانورامية للسودان، تجعلنا نقرأ بإمعان في أوراق «مؤتمر القوى السياسية المدنية السودانية» الذي استضافته القاهرة، ويدعو إلى وقف فوري للحرب أولاً، وإغاثة السودانيين ثانياً، وثالثاً حماية الوحدة الوطنية السودانية، وقد باتت مهددة بالتقسيم والتفتيت، وفي القاهرة دعت الدبلوماسية المصرية إلى وقف فوري للحرب، وضرورة الالتزام بـ«إعلان جدة» بين الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع».
وكان لافتاً للنظر أن تؤكد القاهرة ضرورة تقديم مبادرة سودانية خالصة، من دون تدخلات خارجية، مبادرة تهدف إلى توحيد البلاد تحت قيادة سودانية، تضم مختلف المشارب والميول، حفاظاً على وحدة البلاد مع ضرورة توحيد قواتها المسلحة، حماية للشعب من خطر وجودي أصبح يطرق الأبواب بضراوة.
القاهرة تعبر عن هذا المعنى حين أكدت أن استضافة المؤتمر يمثل بداية تاريخية لحل الكارثة في السودان، وبحق هي كارثة كما وصفها وزير الخارجية والهجرة المصري، السفير بدر عبد العاطي، وكما عبر عنها السياسي السوداني عبد الله حمدوك، حين قال: إننا في خطر وجودي.
كل المؤشرات تؤكد أن السودان في نفق مظلم، بل يزداد إظلاماً، نتيجة حرب عبثية بين أطراف سودانية - سودانية، وأن وضع نهاية للحرب أصبح ضرورة حتمية، من دونها سيدخل الشعب السوداني في متاهة، قد يترتب عليها تمزيق الدولة، ومزيد من النزوح والهجرة، ربما ستتحول الأرض السودانية إلى مخازن استراتيجية للتنظيمات الإرهابية، وأصحاب الامتدادات الطرفية في العالم.
ثمة سؤال يطرح نفسه وسط كل هذه الصورة المظلمة والمخاوف المستمرة؛ ماذا يحتاج السودان للخروج من الكارثة؟
أظن أن التجمع السوداني الشامل للقوى السودانية على مختلف مشاربها في القاهرة رسالة تؤكد أن هناك من بين السودانيين، من يرى أنه حان الوقت لمنع الخطر المحدق بمستقبل السودان، فقد ضم المؤتمر جميع القوى السياسية معاً، وعلى هذا المستوى للمرة الأولى، والجميع كان على ثقة بأن السودان يستحق أن يكون ذا كلمة واحدة، وهنا يبدو الحل ضرورياً وواجباً، ليس فقط بين طرفي الحرب؛ بل بين كل القوى السياسية الشاملة في السودان.
هذه القوى تمتلك مفاتيح الحل، إن أرادت، ومن خلال متابعتي الدقيقة لمؤتمر القاهرة، فإنني أرى ضوءاً في آخر النفق، لكنه يتطلب دعماً من القوى الدولية، خصوصاً في جانب المساعدات الإنسانية، وتنفيذ مقررات جنيف، وباريس، وقيام الشركاء الإقليميين والدوليين بالسعي الحثيث على جمع الفرقاء السودانيين، وتنفيذ قرارات المجتمع الدولي الخاصة بالوضع في السودان، إدراكاً بأن موقع السودان الاستراتيجي يجب أن يكون مصاناً، فسقوطه في حروب مستمرة ليس خطراً على القارة الأفريقية أو المنطقة العربية وحدهما؛ إنما على العالم أجمع.
لا بد أن كل هذه الرسائل وصلت إلى الأشقاء السودانيين، فهم الآن أمام أكبر اختبار وجودي.