في يونيو (حزيران) 2008، كنت أترأس وفداً في قصر الإليزيه نعرض للرئاسة الفرنسية مخرجات منتدى فاس حول الاتحاد من أجل المتوسط، الذي سبق أن نظّمته، وهو منتدى كان تمهيدياً لقمة باريس حول الاتحاد من أجل المتوسط الذي يضم 43 بلداً، ونادينا آنذاك بضرورة التفكير في مستقبل الفضاء المتوسطي الكبير بالاستثمار في العقول والعامل البشري؛ لأن دول الجنوب لا تحتاج إلى مال وإلى هبات، وإنما تحتاج إلى اكتساب المعرفة وتطوير البحث العلمي؛ ومن هذا المنطلق، نادينا بخلق جامعة أورومتوسطية يكون مقرّها بفاس، وهو ما أصبح حقيقة بعد ذلك؛ صحيح أن مدينة فاس لا تطل على البحر المتوسط، ولكن هاته المدينة عرفت منذ قرون بجامعة القرويين التي تعتبر قديسة مدللة تحمل تاريخاً قلَّ نظيره في تكوين العلماء ونشر نور الفهم والتجديد عبر القرون؛ ليس في المغرب فقط، وإنما في العالم بأسره، ومن دونها ما بقي الحرف العربي بالمغرب ولَمَا ازدهرت الحضارة الإسلامية بهذه الديار؛ ولقد وجد المؤرخون في جدران هذه المؤسسة العظيمة، وفي كراسيها العلمية، وفي مرافقها العديدة الدالة، وفيما مر بها من رجال، وما شاهدته من أحداث، وجدوا في كل ذلك فصولاً تختصر ترجمة السيدة فاطمة الفهرية (245 هـ - 859 م) التي بنت هاته الجامعة، وترسم الخطوط الكبرى لما يمكن أن يقال عنها... وقد قال ابن خلدون، وهو يسجل مبادرة السيدة أم البنين: «فكأنما نبهت عزائم الملوك من بعدها»، وهناك عدد من أعلام الفكر الموسوي والمسيحي والإسلامي كان لعلماء فاس الكثر أثر في تكوينهم وظهورهم.
هذا كنه ما أوصلته إلى الحضور في ذلك الاجتماع، الذي سبق قرار خلق تلكم الجامعة في فاس، زِد على ذلك أنه تنافس مع المدرسة المستنصرية ببغداد، نرى جامعة القرويين ازدادت بمدارس تُحاكي الأحياء الجامعية التي يعتبرها العصر الحديث من حسناته؛ وإلى جانب ذلك كانت خزانة الملك أبي يوسف وأبي عنان من بني مرين، ثم المنصور السعدي، هذه الخزائن التي تكون، اليوم، (خزانة القرويين) ذات الشهرة العالمية والمملوءة بالمخطوطات الثمينة التي لا توجد إلا فيها، ومنها أرجوزة ابن طفيل في الطب، وأجزاء من إنجيل القديس لوقا ويوحنا. وفي ظرف قياسي أنشئت الجامعة الأورومتوسطية، وهي من المشاريع المتوسطية القليلة التي كُتب لها النجاح والدوام، ويمكن لكل واحد أن يعاين ما تحقق في ظرف قياسي في جامعة تكوينية وبحثية تسعى لتكون صلة وصل بين ضفتي المتوسط والوطن العربي وأفريقيا، بل والعالم، وقاطرة تنموية للمنطقة، وأصبح لها مكانة في مصاف الجامعات الدولية الكبرى، خاصة أن الجامعة تملك اتفاقيات جادة بالعشرات مع كبريات الشركات والجامعات والمؤسسات الدولية؛ كما يدرس فيها الآلاف من الطلبة من كل دول العالم، ويشتغل فيها المئات من الموظفين والباحثين والأساتذة المغاربة والأجانب، وحظيت بجوائز دولية وتصنيفات دولية مرموقة وطنياً ودولياً.
وسر نجاح الجامعة، اليوم، يكمن في القرار الذي اتخذناه، نحن أعضاء مجلس إدارة الجامعة، ورئيسها العالم الكيميائي الكبير الأستاذ مصطفى بوسمينة؛ ألا وهو أن امتلاك وتسويق المعارف يجب أن يكون من أحد أهداف الجامعة، وهاته الثقافة، للأسف الشديد، هي غائبة في العديد من الجامعات، فالثلاثية جامعة - حكامة - صناعة، هي التي تساهم في بناء المجتمعات الغربية وتطوير صناعاتها، وتحقيق التنمية. فاليابان، كما يعلم الجميع، دولة مساحتها محدودة جدة، ولكنها تمثل ثاني اقتصاد العالم، وهي عبارة عن مصنع كبير قائم على ثلاثية جامعة - حكامة - صناعة، وعلى سياسات عمومية ثاقبة في مجال الصناعات الحديثة والاستثمارات الجذابة، يستورد كل المواد الخام لإنتاج مواد مصنعة تصدّرها لكل أقطار العالم؛ كما يمكن أن نرى، اليوم، كيف أن دولة مثل الهند بدأت تستفيد من تطور بحثها العلمي في الجامعة، ومن الاستثمار في الموارد البشرية والتكنولوجيا المتطورة... فالمطلوب، اليوم، من العديد من الدول هو التفكير في خلق جامعات حديثة وتكييف مناهج البحث والتدريس، وما تتطلبه مجتمعات اليوم... فيجب أن تكافئ بشكل جلي، اكتساب المعرفة وتوظيفها من خلال التعليم والتعلم والبحث والتطوير الثقافي، وجميع صنوف التعبير الأدبي والفني، وإقامة مجتمع معرفي يصبو إلى تأسيس نمط إنتاج المعرفة، عوضاً عن هيمنة نمط الإنتاج التقليدي.