حاول الزعيم الصيني ماو تسي تونغ أن يقفز ببلاده نحو عالم التصنيع في زمن قياسي في الخمسينات، فوقعت الدولة في أكبر مجاعة بتاريخها، راح ضحيتها نحو 30 مليون شخص بعد تردي الإنتاج الزراعي. ويبدو أن ذلك الزعيم قد تأثر بصرامة والده الفلاح، فوضع خطة حازمة تعيد المجد لأمة صنعت قديماً الورق، والبارود، والبوصلة، والألعاب النارية وغيرها، لكنه تسبب في نكسة كبيرة.
ما حدث أن تونغ قد بدأ ما بين عامي 1958 و1962 بتحويل الصين من مجتمع زراعي إلى صناعي، فضغط على شعبه بشكل مبالغ فيه لينتج أكبر كميات ممكنة من الصناعات المختلفة، فضلاً عن الفولاذ، حتى إنه طلب صَهره في المنازل فتردت جودته، وأصبح غير صالح للاستخدام، فأهدر الموارد والجهود. ثم فاقمت الكوارث الطبيعية الاختلال الاقتصادي فقصمت ظهر البعير. ولذلك سُميت «بالقفزة الكبرى إلى الأمام».
الدرس الصيني يشير إلى أنه «في العجلة الندامة»، وأن المشاريع الكبرى لا تتحقق بقفزة. فلا بد من التريث قبل الإقدام على مشاريع طموحة تمس مصير البلاد والعباد.
كل شيء في هذا الوجود أخذ وقته الكافي. حتى الله تعالى قد خلق الكون في ستة أيام. ويحبو الطفل طويلاً قبل أن يتحلى بجسارة القفز، ويمضي عاماً كاملاً قبل أن ينطق بكلمات مفهومة. وتمضي اليرقات ردحاً من الزمن قبل أن تحلق بأجنحة الفراشة.
يحتاج المرء إلى 6 أشهر ليصبح غواصاً ماهراً، ويحتاج إلى ما بين 6 و10 أعوام من التدريب والدراسة المكثفة ليصبح رائد فضاء. ولم تُبنَ البلدان المتقدمة في بضع سنوات، بل بعقود من التجربة والخطأ وقبلها الاستفادة من تجارب من سبقوها.
حتى سلوكيات البشر وعاداتهم لا تتغير عبر «فرمان» أو بيان رقم واحد. الأمر يتطلب وقتاً. لم يصل البريطانيون إلى أريحيتهم في قبول الآخر والتعايش مع النقد اللاذع، إلا بعد ممارسة الديمقراطية لمئات السنين. فقد انفلت وقار النقاش إلى الساحات الخارجية للبرلمان في مبارزات عدة بسبب خلافات شخصية وسياسية بين «رجال الدولة» في القرن الثامن عشر. ورغم أن المبارزة كانت وسيلة مألوفة لمواجهة النزاعات فإنها تبقى عنفاً جسدياً استغرق قروناً مديدة حتى تخلى عنها البريطانيون.
كانت سنغافورة حتى عهد قريب متخلفة، وبعد جهد جهيد ووقت طويل وجدنا طلبتها يتبوأون المرتبة الأولى في قائمة اختبارات تيمز لقدرات الرياضيات والعلوم متفوقين بمراحل على شتى البلدان المتقدمة في عام.
بإمكان أي فرد أو أمة القفز نحو طموحها، لكن بعض القفزات مدمرة. كما أن التعافي من القفزات قد يطول، فيسبقنا من كان يسير بخطى ثابتة نحو مجده أو وجهته. ولذلك قال الصينيون: «رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة»، وهي ما لم تدركه تلك الأمة سابقاً لكنها قد تعلمت جيداً من أخطائها، فغزت جودة منتجاتها التكنولوجية شتى بلدان المعمورة.