أدى القصف الإسرائيلي لمبنى تابع للقنصلية الإيرانية في مجمع السفارة في دمشق إلى مقتل سبعة مستشارين عسكريين بحسب «الحرس الثوري» الإيراني، من بينهم محمد رضا زاهدي القائد البارز في ذراعه الخارجية، «فيلق القدس»، وثالث قيادي فيه يُقتل منذ بدء الحرب في غزة. يُعد زاهدي أهم قيادي في «فيلق القدس» يُقتل بعد قائده السابق قاسم سليماني في بغداد مطلع 2020، وبعد رضا موسوي مسؤول الإمدادات لقوات «الحرس» في سوريا، وحجت الله أميدوار، مسؤول استخبارات «الحرس» و«فيلق القدس» في سوريا أيضاً. تضاف إلى هذه الاغتيالات عمليات قتل إسرائيلية مستهدفة داخل إيران طاولت مجموعة من المسؤولين الأمنيين والعلماء النوويين، فضلاً عن هجمات ضد منشآت عسكرية ونووية وسرقة الأرشيف النووي، وغيرها من العمليات ضد المصالح الإيرانية في سوريا.
تعداد هذه الأهداف الإسرائيلية يؤشر إلى أن ما يجري في المنطقة هو حرب إيرانية - إسرائيلية مباشرة تخطت الحرب ضد وكلاء طهران، وتحولت إلى عمليات عسكرية روتينية في الداخل السوري تأخذ أشكالاً متعددة. يعيدنا ذلك إلى تكرار ما سبق أن كُتب في هذه الزاوية أكثر من مرة، ويفيد بأن عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وحرب غزة التي تلتها هما أكبر من حرب بين «حماس» وإسرائيل، وهي ليست سوى الصاعق الذي جعل حرب الظل بين إيران وإسرائيل الممتدة منذ عقود، تتحول إلى حرب علنية ومباشرة. ما رافق حرب غزة هي جبهات متنقلة في الحرب الإيرانية - الإسرائيلية - الغربية، بدءاً مما يجري على أرض سوريا وحرب «حزب الله» المسماة مساندة في الجنوب اللبناني، والقرصنة الحوثية في البحر الأحمر، والممارسات العدائية للميليشيات العراقية المتحالفة مع إيران، وآخرها تجلى في محاولات زعزعة الأمن في الأردن عندما دعا القيادي في «حماس» خالد مشعل «الإخوان المسلمين» في الأردن إلى الانخراط في حرب غزة وتوسيع الحرب ضد إسرائيل، واعتبار الأردن جبهة مقاومة جديدة ضدها، فيما أطلق عليها بعضهم تسمية «طوفان الأردن».
مخاطر التحريض على الأردن كثيرة ومتعددة الأوجه وهي ليست مستجدة، إذ بدأت مع تهريب حبوب الكبتاغون المخدرة والأسلحة، وإرسال الطائرات المسيّرة المفخخة عبر الحدود السورية، ووصلت حال التحريض إلى إعلان «حزب الله» العراقي عن استعداده تسليح آلاف المتطوعين في الأردن لفتح الجبهة ضد إسرائيل. الهدف من التحريض على الأردن يدخل في سياق سياسة نشر الاضطراب وعدم الاستقرار في المملكة الهاشمية، ومحاولة كسر معاهدة السلام مع إسرائيل، وإسقاط النظام بهدف تغيير معادلة الأمن في الإقليم.
هذه الممارسات تؤكد مرة جديدة أن الحرب الدائرة اليوم تتجاوز حرب «حماس» وإسرائيل على أرض غزة، إلى حرب يشنها النظام الإيراني تهدف إلى تخريب الأمن في الإقليم بواسطة كل القوى المرتبطة به أو المتحالفة معه، وتلك التي تستخدمه أو يستخدمها لأهداف وتحالفات تكتيكية مؤقتة يجيرها كل طرف لمصالحه وأهدافه البعيدة.
كل هذه الوقائع تشير إلى أن إيران وإسرائيل تعملان على خطين متوازيين يتقاطعان ويتخادمان: إسرائيل تستغل حربها ضد «حماس» مثل واجهة في حربها ضد محور إيران ووكلائها، بينما الأخيرة تستخدم «حماس» وحرب غزة في حربها ضد كل خصومها في الإقليم وخارجه الذين يحولون دون تحقيق أهدافها التوسعية. هي حرب وقائية تشنها طهران بهدف حماية دورها وموقعها في المنطقة، وتوسيع دائرة نفوذها، وتمكين حلفائها لمواجهة خطر مشروع السلام الإقليمي الذي بدأت ملامحه تتظهّر عبر محاولات إرساء السلام في المنطقة، والتوجه إلى تعزيز الاستقرار، وحلّ ما أمكن من النزاعات، وإرساء أسس تعاون إقليمي ودولي مستدام.
لا إسرائيل قادرة على القول إن هدفها من استمرار القتال في غزة يقتصر فقط على القضاء على «حماس» واقتلاعها من القطاع، ولا باستطاعة إيران بعد كل هذه الوقائع المتسارعة الادعاء بأنها وحلفاءها في طول المنطقة وعرضها مجندون فقط لإنقاذ «حماس» ومساندتها. وفي السياق، جاءت اتهامات حركة «فتح» لإيران «بإشاعة الفوضى والفلتان واستغلال القضية المقدسة».
النظام في إيران يعي تماماً أن عدوه الأول هو مسار الاستقرار والرفاه والسلام، ويواجهه عبر الاستثمار في النزاعات الداخلية والخارجية بين دول الإقليم. هذا لا يعني أن إيران تسعى لحرب واسعة بل سياساتها مبنية على المراوحة والحروب الصغيرة المتنقلة وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في عدد من دول الإقليم، وهذا تماماً ما تعيشه المنطقة منذ سنوات.
إيران لا تسعى للحرب الواسعة لأسباب كثيرة، أهمها ضعف قدراتها العسكرية على مواجهة واشنطن، وأوضاعها الاقتصادية المتردية، وعزلتها الدولية باستثناء علاقاتها مع روسيا والصين، وهي تدرك تماماً حدود قدراتهما ورغبتهما في الانخراط معها في حرب واسعة. إلى ذلك، يبقى وضعها الداخلي علبة سوداء حقيقته مجهولة. في السياق نفسه، يخسر النظام جراء الضربات الإسرائيلية المتكررة قيادات وخبرات رئيسية مهمة من أعمدة الثورة كما التكنولوجيا النووية، ويبقى مجهولاً من سيخلفهم ومدى خبرتهم ومعرفتهم مقارنة بهؤلاء، وأثر ذلك على قوة النظام وردود فعله. ولا يغيب عن البال ما تشير إليه هذه الضربات من حجم الاختراق الإسرائيلي للأمن الإيراني وتحديداً على المستوى الاستخباري.
في المقابل، تستغل إسرائيل هذه الحرب الإقليمية المحدودة، طالما الحرب الواسعة ضد إيران غير مرغوبة بل ممنوعة أميركياً، لإضعاف وإلحاق أكبر ضرر ممكن بالفلسطينيين على الصعد كافة، فضلاً عن الثأر من «حماس»، وقد تصل أهداف البعض في حكومة بنيامين نتنياهو إلى محاولة تهجير الفلسطينيين من القطاع أو جعل ظروف حياتهم فيه مستحيلة.
محصلة الوضع أنه مهما كانت ردة الفعل الإيرانية على الغارة ضد مجمع السفارة الإيرانية في دمشق، فهي لن تغيّر في المشهد العام الذي يسود المنطقة منذ أكتوبر 2023. المتغيّر الوحيد هو أن هوية الأطراف المتنازعة باتت أكثر وضوحاً، وبالتالي أصبحت الحلول والتسويات الجزئية غير ناجعة كما أن الحلول العسكرية الشاملة مستبعدة في المديين القريب والمتوسط. يبقى الأمل بمبادرة سياسية لسلام شامل للنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني وإرساء أسس أمن إقليمي تنقل الصراع من البندقية إلى طاولة المفاوضات، يطلقها الرئيس الأميركي قبل أن يخبو «الغضب» من نتنياهو ويغرق في صخب الانتخابات الرئاسية.