علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

محمد عبد الرازق واختلاساته «الكولمبية»

استمع إلى المقالة

في مقاله: «دفاع عن موقف»، المنشور في مجلة «الآداب»، بتاريخ 1 يناير (كانون الثاني) 1973، أحال القاص والناقد محمد محمود عبد الرازق، في الهامش، في كلام استشهد به في متن مقاله إلى مصدر ذكر فيه المعلومات التالية: «تطور مصر من 1924 إلى 1950، تأليف مارسيل كولمب، وترجمة زهير الشايب، ومراجعة الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى. نشر مكتبة سعيد رأفت عام 1972، ص 182 وما بعدها».

المؤرخ أحمد عبد الرحيم مصطفى - إضافة إلى مراجعته لترجمة هذا الكتاب من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية - كتب له مقدمة، قال فيها: «منذ أن صدر كتاب الأستاذ مارسيل كولمب عن (تطور مصر)، في عام 1950، حظي هذا التطور باهتمام المؤرخين في الشرق والغرب. هذا في الوقت الذي أخذت تتكشف فيه المادة التاريخية الأصلية، وتثير بين وقت وآخر إضافات جديدة لها وزنها. كما أن الجامعات المصرية وغير المصرية قد أدلت بدلوها في هذا الجهد، فخرجت بأبحاث مبتكرة طبع بعضها، ولا يزال البعض الآخر منها حبيس المكتبات الجامعية... ورغم ذلك كله لا يزال كتاب الأستاذ كولمب يحتل مكانة سابقة في مكتبة التاريخ المصري المعاصر».

وبعيد صدور الكتاب باللغة الفرنسية عام 1950، أشار إليه مؤرخ من كبار المؤرخين المصريين - هو محمد شفيق غربال - في كتابه: «تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية» الصادر عام 1952، في ختام تعريفه بمصادر كتابه وتقييمه لها، فقال: «ولم أرَ فيما نُشِر بغير اللغة الإنجليزية شيئا قيماً، اللهم إلّا مذكرات النائب العمومي لدى المحاكم المختلطة، فان دن بوش - وهو بلجيكي الجنس - وفي مذكراته فصل عن احتكام الملك فؤاد وسعد زغلول باشا إليه في مسائل تتصل بتطبيق الدستور المصري. وكان ذلك على اعتبار أن واضعي الدستور المصري اعتمدوا على نصوص الدستور البلجيكي. وقد اطلعت في أثناء إعداد هذه الفصول على كتاب مارسيل كولمب، وعنوانه (تطور مصر 1924 - 1950) باللغة الفرنسية، وهو بحث جدّي ولكنني لم أستخدمه».

وفي العام نفسه، بعد أشهر قليلة، في عدد خاص عن الفتوح الإسلامية في مجلة «الأزهر»، حين كان الأديب أحمد حسن الزيات رئيس تحريرها، الصادر بتاريخ 21 سبتمبر (أيلول) 1952، في باب الكتب، وتحت عنوان «كتب إفرنجية تعالج موضوعات إسلامية وشرقية»، قدّم عمر حليق عرضاً مختصراً لعشرة كتب، كان على رأسها كتاب مارسيل كولمب «تطور مصر من 1924 إلى 1950». وفي بيانات النشر ذكر أنه من نشر دار «ميزون نونو» بباريس.

يقول عمر حليق في تعريفه بالمؤلِّف وبالمؤلَّف: «حاول المؤلف في هذا الكتاب أن يدوّن تاريخ مصر الحديث تدويناً يشمل الأحداث التي مرّت بها خلال العشرين عاماً الأخيرة. والمؤلف معروف ببحوثه عن العرب والإسلام. وقد تولى منصب الأمين العام لمعهد الدراسات الإسلامية بباريس. ويعترف المؤلف بأن معالجته لتاريخ مصر الحديث لا تكتفي بمؤلَّف واحد، وإنما تحتاج إلى مجلدات.

ومع أنَّ هذا المؤلف الفرنسي يغمط الحركة القومية المصرية حقها في بعض الحالات والحوادث، إلّا أنه يحاول أن يدين السياسة الإنجليزية في مصر ويلزمها تبعة بعض التطورات العنيفة التي مر بها الشعب المصري منذ أزمة نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1924. ومن مزايا هذا الكتاب أنه لا يقتصر على تسجيل الحوادث والتطورات السياسية، وإنما يخصص بعض الفصول لتسجيل التطور الفكري في الثقافة العربية إجمالاً ممثلة في مصر زعيمة الفكر العربي. ولا يترك المؤلف مشاكل مصر الاجتماعية دون أن يلقي عليها بعض الضوء».

هذا المستشرق الفرنسي من مواليد الجزائر عام 1913. من آثاره: «التعبئة في الجزائر في أواخر سنوات الحماية»، «تأملات حول أصل التمثيل النيابي في تركيا وفي المشرق العربي»، «حياة القاهرة في القرن الثامن عشر»، «المشرق العربي وعدم الانحياز». ومع أنه كرّس حياته لدراسة تاريخ الشرق الأدنى، فإنه بعد أن تقاعد من العمل، أستاذاً في معهد أو مدرسة اللغات والحضارات الشرقية الحيّة بجامعة السوربون، سجّل حالة نادرة وطريفة بين أقرانه المستشرقين، وهي أنه أنشأ فندقاً ومطعماً في جنوب فرنسا بعد أن استقر هناك. وقد توفى عام 2001.

حان الآن وقت توضيح ما قصدته في خاتمة المقال السابق بقولي: إن محمد محمود عبد الرازق استعان بكلام وارد في كتاب مارسيل كولمب، «تطور مصر 1924 إلى 1950»، من خلال هذه المقارنة بين كلامهما:

يقول محمد محمود عبد الرازق، وهو يتحدث عن رد الفعل الذي أحدثه صدور كتاب طه حسين «في الشعر» عام 1926: «وكان رد الفعل المباشر لهذه الجرأة من المجددين هو قيام اليمين المتطرف والمعتدل بإنشاء العديد من الجمعيات الدينية بصورة غير طبيعية. وكان أهم هذه الجمعيات، جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست بمدينة الإسماعيلية عام 1927 أو 1928. وقد اكتسبت هذه الجماعة - مع مرور الزمن - شعبية مذهلة شعر معها دعاة التجديد - كما يقول مارسيل كولمب - بأن عليهم أن يقدموا براهين أكيدة على إخلاصهم لعقيدتهم. وجاء هذا البرهان منذ عام 1930 في صورة اتخاذ الدين ملهماً. وما إن جاء عام 1933 حتى كتب طه حسين فصوله المستوحاة من حياة الرسول تحت عنوان مستعار من لومتر: (على هامش السيرة). ثم تبعه في ذلك هيكل والعقاد والحكيم، بل ودخلت وزارة المعارف الحلبة في عام 1940، حين نشرت تحت إشرافهما للناشئة في البلدان العربية سلسلة «أعلام الإسلام». وعهدت بتأليفها إلى كبار الكتاب. وقد أظهرهم استلهامهم هذا للدين - وهم الذين كانوا يستوحون أفكارهم من الآداب الغربية - بمظهر مَن يقوم بعمل من أعمال الدفاع عن الدين، ووصف البعض ذلك بأنه (ردة رجعية إلى التقاليد). والواقع أنهم لم يقصدوا بهذه التراجم التفسير التاريخي أو القانوني للإسلام - باستثناء هيكل الذي اقترب من هذه المهمة - وذلك لأنهم لم يعدّوا أنفسهم من رجال اللاهوت أو التاريخ. وكل ما كانوا يصبون إليه تبرير اجتهاداتهم وإعطاؤها حق المواطنة».

ثم يورد كلاماً بين علامتي تنصيص، تتساوى عدد أسطره مع عدد الأسطر التي نقلتها من مقاله بحرفها. وقد أورده بين علامتي تنصيص على أنه هو فقط، الكلام المنقول من كتاب مارسيل كولمب.

أوحى محمد محمود عبد الرازق للقارئ بأن الأسطر التي نقلتها منه بحرفها، وأسطراً سبقتها، هي مِن كلامه الذي جاء نتيجة لاستقرائه الدقيق لتاريخ مصر الثقافي منذ حملة نابليون العسكرية عليها، وأن ما لمارسيل كولمب من كلام يقتصر على هذه الجملة: «شعر معها دعاة التجديد بأن عليهم أن يقدموا براهين أكيدة على إخلاصهم لعقيدتهم»، مع أنه كان ينقل حرفياً - وباجتزاء - كلام كولمب الذي ادعى أنه من كلامه هو.

الأسطر السابقة كان قد قال فيها: «وهذه القضية تمثل في الواقع أحد الفصول الهامة في تاريخ مصر الحديثة. ولقد بدأ هذا الفصل من نهاية القرن الثامن عشر، حينما اضطرمت داخل العقول الإسلامية على أثر احتكاكها بالحضارة الغربية نيران معركة انتهت عند (دعاة التجديد) بتبني الطريقة النقدية المتبعة في الجامعات الأوروبية. وما إن بدأ الربع الثاني من القرن العشرين في حبوه حتى أخرج طه حسين كتابه (في الشعر الجاهلي)».

في الفصل الخامس من كتاب مارسيل كولمب - وعنوانه: «دور الإسلام في الحياة الاجتماعية والسياسية»، قال مارسيل كولمب في أول كلام كان عنوانه «معركة القدامى والمحدثين»: «ولجأ دعاة التجديد؛ هؤلاء المتشربون بالثقافة الغربية - وخاصة الفرنسية - إلى الطريقة النقدية المتبعة في الجامعات الأوروبية». فـ«الطريقة النقدية المتبعة...» هي قول كولمبي، راق لمحمد محمود عبد الرازق أن يستولي عليه، وينسبه لنفسه.

وقال مارسيل كولمب في هذا الفصل تحت عنوان «التفسير القومي للإسلام»: «وجاءت أول نتائجه في بدايات عام 1927 متمثلة في نشأة العديد من الجمعيات الدينية بصورة غير طبيعية».

ولعلكم تلحظون أن مارسيل كولمب لم يستعمل كلمة «اليمين» ولا قسَّم هذا «اليمين» إلى «يمين متطرف» وإلى «يمين معتدل»، كما فعل ذلك محمد محمود عبد الرازق.

وكلمة «المعتدل» التي استعملها محمد محمود عبد الرازق في تقسيمه السياسي والفكري لليمين الديني أو الإسلامي، هي تحوير لعنوان في الفصل الخامس من كتاب مارسيل كولمب هو «الإصلاحيون المعتدلون: مدرسة المنار»؛ فاليمين المعتدل كان محمد محمود عبد الرازق يقصد به، رشيد رضا ومدرسة مجلته، مجلة «المنار»، والاتجاه الإصلاحي الإسلامي عموماً.

وقال مارسيل كولمب تحت هذا العنوان أيضاً: «ولم تلبث أن نشأت جمعيات أخرى لها طابع مزدوج: ديني وسياسي في الوقت نفسه، وثمة اثنتان من هذه الجمعيات جديرتان بالذكر (حسب تاريخ تأسيسهما): جماعة (الإخوان المسلمين)، وجمعية (مصر الفتاة). وقد حازت أولاهما، وهي التي تأسست عام 1927 أو 1928 على يد مدرس خط بالمدارس الثانوية الحكومية، شعبية مذهلة غداة الحرب العالمية الثانية».

محمد محمود عبد الرازق كان قد قال في سرقته من هذا الكلام ما نصه: «وكانت أهم هذه الجمعيات (جماعة الإخوان المسلمين) التي تأسست بمدينة الإسماعيلية عام 1927 أو 1928. وقد اكتسبت هذه الجماعة (مع مرور الزمن) شعبية مذهلة».

وكان قد وضع لهذين العامين، عام 1927 و1928، هامشاً كتب فيه: «ليس بالقطع عام 1928، كما ذكر المترجم الدكتور نجم»!

«وكانت أهم هذه الجمعيات»، هي جملة نشلها محمد محمود عبد الرازق من الفقرة التي كان مارسيل كولمب يتحدث فيها عن «نشأة العديد من الجمعيات الدينية بصورة غير طبيعية»، والتي قال فيها: «وكانت أهم هذه الجمعيات تلعب في أوساط الطبقات المتوسطة في المدن دوراً يتزايد مع الأيام، وهو دور شبيه بالدور الذي تلعبه الطرق الصوفية».

جملة كولمب: «دوراً يتزايد مع الأيام» تخص جمعيات دينية، بعضها قال عنها إنها نهايتها جاءت سريعة. وبعضها الآخر، قال عنها إنها ظلت تنمو خلال سنوات طويلة لتحرز فجأة صيتاً ذائعاً ثم لتتوارى بعد ذلك في ظلام النسيان. وهذه الجمعيات حين عدّد أهم أسمائها لم يكن من بينها جماعة الإخوان المسلمين.

فهذه الجماعة ومعها جمعية «مصر الفتاة» (حسب عرضه لنشأة الجمعيات الدينية) نشأتا ضمن جمعيات كانت دينية وسياسية في آن. وهذه الجمعيات التي من هذه الصنف نشأت عنده بعد نشأة الجمعيات الدينية الأولى. وللحديث بقية.