إن مسألة العقلانية لا تطرح بالصورة أو الكيفية التي طرحها لويس عوض، وهي أن المصريين اعتادوا وتعودوا على التفكير العقلاني، فهي تطرح – مثلاً – عند تصنيف التيارات السياسية والاجتماعية والتيارات الفلسفية في مصر، تيارات عقلانية وتيارات غير عقلانية.
لويس عوض في محاضرته اللندنية (التطورات الثقافية والفكرية في مصر منذ عام 1952) وفي محاضرته الأميركية (التطور الثقافي في مصر منذ 1952) سخا في إطلاق أحكام وتوصيفات غير صحيحة. ومنها قوله في محاضرته الأولى التي ألقاها في عام 1966: «ولما كانوا عاجزين عن مهاجمة الاشتراكية صراحة باعتبار أنها الفلسفة الاجتماعية التي تلتزم بها الدولة، أعلنوا أن كل المبادئ الأساسية الصحيحة في المذهب الاشتراكي موجودة في الدين. ولم يقفوا عند حد الاستناد إلى سنن آباء الإسلام الأوائل، بل استندوا – أيضاً – إلى اشتراكية الرئيس بورقيبة واشتراكية الملك فيصل».
قوله هذا ورد في سياق حديثه عما سماه «نشاط الفكر الرجعي المكافح» للقوانين الاشتراكية التي أعلنها الرئيس جمال عبد الناصر عام 1961، وللميثاق الوطني الذي أعلنه عام 1962، من أول الستينات الميلادية إلى اكتشاف تنظيم 1965 بقيادة سيد قطب.
أصحاب هذا «النشاط الرجعي» – كما يبدو من حديثه – هم الإخوان المسلمون وذوو التوجه الديني الإسلامي، محمود محمد شاكر ومحمد جلال كشك وآخرون، الذين جمعهم تحت اسم واحد، هو اليمين المتطرف.
وهذا «النشاط الرجعي» – كما يبدو من حديثه أيضاً – كان قائماً على قدم وساق من داخل مصر وليس من خارجها.
في تلك السنوات كان في مصر ثلاث اشتراكيات: اشتراكية علمية يدعو لها الشيوعيون المصريون. واشتراكية عربية يدعو لها الخطاب الناصري الرسمي. واشتراكية إسلامية يشجع جمال عبد الناصر على القول بها مع زعمه بأن اشتراكيته اشتراكية عربية تمييزاً لها عن الاشتراكية العلمية أو الاشتراكية الماركسية. فعبد الناصر ردد في خطبه أن الاشتراكية هي من الإسلام وإلى الإسلام. وأوعز إلى مفتي الديار المصرية بأن يفتي بأن القوانين الاشتراكية التي أصدرها تتفق مع قواعد الفقه الإسلامي.
ومن خارج مصر استعان بكتاب المراقب العام لـ«الإخوان» المسلمين في سوريا «اشتراكية الإسلام» لمصطفى السباعي، فأعيدت طباعته في دار ومطابع حكومية رسمية، هي دار ومطابع الشعب، طبعات عدة. وقبل أول طباعة لهذا الكتاب في هذه الدار وهذه المطابع عام 1962، كان صاحبه قد منح جائزة الدولة التشجيعية في عام 1960.
هذه بعض الأمثلة لتشجيع عبد الناصر لمقولة اشتراكية الإسلام.
إن لدى الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة اشتراكية، وهي التي كانت تسمى رسمياً بتونس «الاشتراكية الدستورية». وفد جاءت اشتراكية بورقيبة بعد أمد قصير من مجيء اشتراكية عبد الناصر. وفي حدود اطلاعي لم أقرأ أن أحداً من الإخوان المسلمين أو من ذوي التوجه الديني الإسلامي شايعها في مصر في مواجهة اشتراكية عبد الناصر. ومن الثابت والمشهور أن الملك فيصل بن عبد العزيز، لم يدعُ إلى أي صنف من أصناف الاشتراكية: إسلامية أم عربية، سوفياتية أم ماوية، يوغسلافية أم إسكندنافية، دستورية أم ديمقراطية.
لعلكم عرفتم من مقالات سابقة في تتبعي لتفسير لويس عوض لاتجاه محمد حسين هيكل وطه حسين والعقاد إلى الكتابة في الإسلاميات، أنه قال به أول مرة في مقاله (موت هرقل) الذي رثى العقاد به بعد موته في 12 مارس (آذار) 1964. وعرفتم أنه في المرة الأولى، كان قد حصر هذا التفسير في إسلاميات العقاد.
في المرة الثانية، في محاضرته اللندنية (التطورات الثقافية والفكرية في مصر منذ عام 1952)، قال به مع إدراج إسلاميات طه حسين وإسلاميات هيكل ضمن هذا التفسير. ونص ما قاله في هذه المحاضرة، هو: «ومنذ ذلك التاريخ اتجه طه حسين إلى كتابة السير الرائعة عن النبي محمد وعثمان وعلي. ومع ذلك فإنه يبدو أن هيكل والعقاد وطه حسين كانوا في مواجهة التهديد الداهم برجعة ثيوقراطية إلى العصور الوسطى يحاولون على وعي منهم أو على غير وعي (!)، أن يعيدوا كتابة التاريخ الإسلامي على أساس علمي، وأن يضفوا عليه طابعاً عصرياً بتوجيه اهتمام أكبر إلى العناصر التاريخية أو النفسية بدلاً من العناصر الميتافيزيقية».
وفي المرة الثالثة، وهي محاضرته الأميركية (التطور الثقافي في مصر منذ 1952) التي ألقاها عام 1971، أضاف إليهم اسم توفيق الحكيم واسم مسرحيته (محمد). ومما زاده في تفسيره هذه المرة، أن كتابة السير الدينية عند هؤلاء «كانت بدعة محبوبة في مصر، ازدهرت في النصف الثاني من عقد الثلاثينات». وأن المصريين لم يتعودوا على التفكير غير العقلاني.
يحيرك لويس عوض في المرة الثانية وفي المرة الثالثة، فتسأل: هل ما قدمه لويس عوض هو تفسير لاتجاههم إلى الكتابة في الإسلاميات أو هو تبرير لاتجاههم هذا الاتجاه؟
الحق أنه كان تبريراً قدمه في إطار تفسيري. أو بعبارة أخرى: تفسير اعتذاري.
في المرة الرابعة والأخيرة أفصح عن موقفه الحقيقي من اتجاه هيكل وطه حسين والعقاد إلى الكتابة في الإسلاميات الذي كان قد أبان عنه قليلاً في محاضرته الأميركية، مع تقديم تبرير أو تفسير لم يقل به في المرة الثانية وفي المرة الثالثة. هذا الموقف أفصح عنه في سيرته الذاتية (أوراق العمر: سنوات التكوين) الصادرة عام 1989. وكان سيصدر الجزء الثاني منها لكنه توفي بمرض سرطان المخ في 9 سبتمبر (أيلول) 1990، فلم يصدر هذا الجزء.
فهو في هذا السيرة أدانهم لتخليهم عن الثورية في الفكر، واحتمائهم بـ«المحافظة» والظهور بمظهر «العائد إلى الدين».
أما التبرير أو التفسير أو الحكم الذي قال به في هذه السيرة، فهو «لبس قناع المصالحة مع المؤسسة الاجتماعية».
عبارته هذه أعادتني إلى عبارة وردت في ثنايا كلام صديقه الحميم القديم محمد مندور، المتوفَّى في 20 مايو (أيار) 1965، الذي قاله في مقاله (الأدبي المصري المعاصر) المنشور ضمن مقالات أخري في كتابه (في الميزان الجديد) الصادر عام 1944.
يقول مندور: «والناظر في أدبنا الحديث يلحظ أن الجيل السابق قد نجح في شيء وأخفق في أشياء. وأكبر ظواهر الإخفاق فيما يبدو هو خضوع ذلك الجيل لضغط الهيئة الاجتماعية. نعم إنني لا أجهل أن امتداد الزمن بالحياة كثيراً ما ينتهي بنا إلى الصلح معها، فالشيوخ عادة أكثر رضاً وتفاؤلاً من الشباب الساخطين المتشائمين. كما أعلم أن طول التجارب كثيراً ما يبصرنا بحدود للممكنات لم نكن نفطن لضيقها أيام حداثتنا، بل إن كل تجربة عبء يثقل خطانا.
وأضيف إلى ذلك أنه قد يكون من الخير لحياتنا الاجتماعية أن ترتد هجماتنا عن بعض المقومات التي في نهوضها ضرورة لاستقامة الأمور واطرادها على نحو يشفع فيه الثبات لما عداه. وبالنفس من اليقظة ما يبصرون بأن للحياة المادية قسوة كثيراً ما تلين أصلب العزم، وثمة الطموح وإغراء الشهرة وسحر الجاه وشهوة السلطة الزمنية وما إلى ذلك من نزعات، ولكنني رغم كل هذا أتساءل: ما بال معظم كتابنا قد انتهوا بالكتابة عن (محمد)؟ أهو إيمان من يشعر باقترابه من اليوم الآخر؟ ذلك ما نرجوه، ولكن ثمة أمر لا شك فيه هو أننا قد وصلنا إلى درجة التزمت».
هذا الأمر الذي أوصل الأدباء المصريين إلى درجة التزمت في الحين الزمني الذي كتب فيه مقاله، هو أمر آخر ومختلف كلّياً عن موضوع الكتب التي كان يقصدها ويقصد مؤلفيها بكلامه.
يقول في المثال الذي اختاره للإبانة عن درجة التزمت التي وصل الأدباء المصريون إليها حينها: «هالني يوماً أن أرى أحد كتابنا المعروفين باتساع الأفق يدعوني إلى أن أسقط من حديث في الراديو كلمة (حوريّات) ترجمة لعرائس الغابات المعروفة في الأساطير اليونانية؛ خوفاً من أن يتهمني أحد بالمروق عن الدين لاستعمال لفظة وردت في القرآن، وأنا بصدد الحديث عن خرافات الوثنية اليونانية».
الكتب التي كان يقصدها هي بمؤلفيها: على هامش السيرة بأجزائه الثلاثة (1933 – 1937 - 1938) لطه حسين، وحياة محمد (1935) وفي منزل الوحي (1937) لمحمد حسين هيكل، ومسرحية محمد (1936) لتوفيق الحكيم، وعبقرية محمد (1942) للعقاد.
عبارة محمد مندور «خضوع ذلك الجيل لضغط الهيئة الاجتماعية» هي العبارة التي أعادتني إليها عبارة لويس عوض «ثم انتهوا إلى لبس قناع المصالحة مع المؤسسة الاجتماعية».
الفعل الماضي «انتهوا» الذي استعمله محمد مندور في سؤاله هذا: ما بال معظم كتابنا قد انتهوا بالكتابة عن محمد؟ استعمله لويس عوض في عبارته السالفة. واستعمله في بقية كلامه في صيغة المفرد في الجمل التالية:
«فمحمد حسين هيكل بدأ بـ(ثورة الأدب) و(جان جاك روسو) وانتهى بـ(حياة محمد) و(في منزل الوحي)».
«وطه حسين بدأ بـ(حديث الأربعاء) و(الشعر الجاهلي)، وانتهى برباعيته الدينية (على هامش السيرة) و(الفتنة الكبرى) و(علي وبنوه) و(الشيخان)».
«والعقاد بدأ مثالياً أوروبياً، وانتهى بأن بنى لنفسه ضريحاً من العبقريات الإسلامية».
ليس فيما عرضته احتمال توارد خواطر أو وقع حافر على حافر، بل هو ليس أكثر من تفصيل أجمله محمد مندور في فكرة قال بها في المنتصف الأول من القرن الماضي. وفي هذا التفصيل تتمة لذكر كتب كان قد ألّفها طه حسين والعقاد بعد صدور كتاب (في الميزان الجديد) عام 1944.
كما أن كلمة «الصلح» في هذه الجملة لمحمد مندور: «نعم، إنني لا أجهل أن امتداد الزمن بالحياة كثيراً ما ينتهي بنا إلى الصلح معها» غيّرها لويس عوض إلى كلمة «المصالحة» في عبارته.
محمد مندور استعمل في كلامه تعبيراً بدأ استعماله في الكتابة العربية النهضوية منذ القرن التاسع عشر، وهو «الهيئة الاجتماعية». وهذا التعبير معناه السكان أو المواطنون أو الأمة في بقعة جغرافية ما. وهو يعني «المجتمع» كما في استعمالنا الحالي وفي استعمالنا له منذ زمن طويل.
وللتضليل استعمل لويس عوض في عبارته تعبير «المؤسسة الاجتماعية»، وهو استعمال غير دقيق. فالمجتمع المصري – للتوضيح – في ثلاثينات القرن الماضي وقبلها وبعدها يحوي مؤسسات اجتماعية عدة، فأي مؤسسة اجتماعية لبس أولئك قناع المصالحة معها؟! وللحديث بقية.