أوسكار آرياس هو اقتصادي ورجل قانون بارع، تولى منصب رئيس كوستاريكا لولايتين يفصل بينهما عقدان من الزمن، وجاء ذلك بعد فوزه بانتخابات ديمقراطية في 1986، وفي 2006. ورغم أن أميركا اللاتينية، التي تنتمي إليها كوستاريكا، تحفل بعدد غير قليل من القادة الاستبداديين، فإن آرياس يُعد أحد أفضل القيادات التاريخية في تلك المنطقة، وهو الأمر الذي مكّنه من الفوز بـ«جائزة نوبل للسلام» عام 1987، لعمله على إحلال السلام، وإيجاد حلول سياسية للنزاعات المُسلحة.
تلقى آرياس جانباً من تعليمه في الغرب، وعمل في بعض الجامعات الأميركية، وعادةً ما يؤكد إعجابه بالولايات المتحدة وشعبها، حتى إنه حصل على 93 شهادة فخرية منها، كما أنه يُعرف بالاتزان، والتزام النهج العقلاني في معالجة الأمور، لكن كل ذلك لم يشفع له، ولم يمنع تعليق تأشيرته السارية لزيارة الولايات المتحدة.
فقد أخبرنا آرياس، يوم الأربعاء الماضي، أنه تلقى بريداً إلكترونياً من الحكومة الأميركية يخطره بتعليق تأشيرته، بداعي «ظهور معلومات تشير إلى احتمال عدم أهليته لدخول البلاد»، وهو الأمر الذي عزاه إلى بعض الآراء السياسية التي أدلى بها أخيراً.
ويبدو أن تفسيره لذلك القرار صحيح، فعلى مدى السنوات الثلاث الفائتة لم يتوقف آرياس عن بث آرائه الناقدة للسياسات الأميركية؛ سواء كان ذلك يتعلق بالحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحرب الإسرائيلية على غزة، أو الصراع التجاري الأميركي - الصيني، أو موجة الرسوم الجمركية الجائرة، التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب على عشرات من شركاء بلاده التجاريين.
وعند مراجعة ما بثه آرياس من آراء في هذه الشؤون يتضح على الفور أنه التزم لغة منضبطة، ومقاربة موضوعية، وسعى إلى الإنصاف، من دون تجريح أو إساءة، وكان أقسى تعليقاته في ذلك الصدد هو التعليق الذي قال فيه إن واشنطن «تُرسي أولويات خاطئة، لأن القيم التي تتبعها خاطئة».
لا يبدو أن آرياس أخطأ أو بالغ حين تحدث عن «قيم خاطئة» باتت تؤطر السلوك الأميركي في مقاربة الكثير من الشؤون الداخلية والخارجية، وهو أمر أضحى شائعاً ومتداولاً ويحظى بقدر من التوافق مُعتبر، سواء داخل أميركا أو خارجها.
فبموازاة إعلان آرياس تعليق تأشيرته، كان مسؤولون أميركيون يبلغون وسائل الإعلام بأن وزير الخارجية ماركو روبيو أصدر، في شهر مارس (آذار) الماضي، أوامر للدبلوماسيين الأميركيين، العاملين في مناطق العالم المختلفة، بتدقيق حسابات مواقع «التواصل الاجتماعي» لبعض المتقدمين للحصول على تأشيرات الزيارة.
والهدف من ذلك الإجراء، كما يشرح هؤلاء المسؤولون، ليس سوى محاولة منع دخول من يُشتبه في انتقادهم الولايات المتحدة أو إسرائيل من دخول البلاد، في حال ظهرت انتقاداتهم على وسائل «التواصل الاجتماعي»، كما نقلت صحيفة «نيويورك تايمز». وبمقتضى هذا الأمر، سيكون لزاماً على الدبلوماسيين الأميركيين إحالة طلبات منح التأشيرة إلى «وحدة منع الاحتيال»، التي ستكون معنية بإجراء فحص لحسابات بعض هؤلاء المتقدمين للحصول على التأشيرات، وهو الفحص المعروف بـ «تحليل الشبكات الاجتماعية» Social Network Analysis.
ويعود تاريخ هذا الفحص إلى عام 2016، حين بدأت السلطات الأمنية في الولايات المتحدة تفعيل استراتيجية أمنية ترتكز على إخضاع طالبي اللجوء له، ساعيةً إلى تطوير برمجيات مناسبة للتعامل مع ملايين الحسابات على وسائط «التواصل الاجتماعي».
بات فحص «تحليل الشبكات الاجتماعية» آلية سياسية وإدارية تتبناها الولايات المتحدة الأميركية إذن، وقد أدرجتها ضمن أدلة السياسات التي تنتهجها لتحقيق أهدافها الأمنية إزاء طالبي اللجوء والزيارة، لكنَّ القيمة التي تقف وراء هذه الآلية تعود إلى منتصف القرن الفائت على الأرجح، وهي قيمة «المكارثية».
إنها «مكارثية» جديدة تزدهر في الولايات المتحدة الأميركية في هذه الأثناء، و«المكارثية» مصطلح يتردد على الأسماع كثيراً منذ نحو سبعة عقود، وقد نشأ حين دشن السيناتور الأميركي اليميني جوزيف مكارثي، فكرته في أجواء الحرب الباردة، ليضغط على السياسيين والمفكرين والإعلاميين في الولايات المتحدة والغرب، ويحرمهم من إبداء أي رأي مخالف، ويُسهل «محاربة الشيوعية والشيوعيين»، عبر قمع الآراء المخالفة، وتخوين أصحابها، بغضِّ النظر عن مدى تحلي آرائهم ومواقفهم بالموضوعية والإنصاف.
تريد الإدارة الأميركية أن تستخدم أدوات «الذكاء الاصطناعي»، ووسائل التحليل المتقدمة، في ضبط آراء الناس وتلجيمها، ومنع كل ناقد أو مُخالف في الرأي من زيارة البلاد أو اللجوء إليها.
وعبر «تحليل الشبكات الاجتماعية» ستفرض تلك الإدارة سطوتها على آراء كثيرين، حتى لو كانوا من حائزي «نوبل»، وستعاقبهم على أي خروج عن الخط المُراد اتباعه، وهو أمر لم يكن يتوقعه أكثر المتشائمين في أكثر الكوابيس سوداوية بشأن حرية الرأي والتعبير في الولايات المتحدة.