وما زلتُ أردِّد بإعجابٍ بالغ ما قال ابن قتيبة عن الشعر: «الشعر مَعْدِنُ عِلْم العرب، وسِفْرُ حِكمتِها، وديوانُ أخبارِها، ومستَوْدعُ أيامِها، والسُّورُ المضروبُ على مآثرها، والخَندَقُ المحجوزُ على مفاخرها، والشاهدُ العَدْلُ يومَ النَّفار، والحُجةُ القاطِعةُ عند الخِصَام؛ ومن لم يقم عندهم على شَرَفه وما يدَّعِيه لسلفه من المناقب الكريمة والفَعَال الحميد بيت منه، شَذّتْ مَساعيه وإن كانت مشهورة، ودَرَسَت على مُرور الأيّام وإن كانت جِساماً؛ ومن قَيَّدَها بقوافي الشعر، وأوثقها بأوزانه، وأشهَرها بالبيت النادر، والمَثَل السائر، والمعنى اللطيف؛ أخلدها على الدهر، وأخلصها من الجَحْد، ورفع عنها كَيْدَ العَدُوّ، وغضَّ عينَ الحسود».
وبعدُ، فكأنّي بابن قتيبة، بعد قوله السابق، يُردّدُ منشداً:
إذا استكثَرَ الأعداءُ ما قُلتُ فيكمُ فإِنَّ الذي يستكثرونَ قليلُ
كيف يُستنكر تعلُّق العربي بالشعر، والأمر ما قرأنا؟!
بل هاكَ في وصف الشعر، ما يُمتع ويُقنع؛ يقول الدكتور محمود الطناحي: «والشِّعرُ ما عرفْتَ: متعةُ الأديب، وذوقُ البلاغيّ، وحُجَّةُ المُفسِّر، وسَنَدُ الأصوليّ، ودليلُ الفقيه، وشاهدُ النحويّ، وميزانُ العروضيّ، ووثيقة المؤرِّخ، وخارِطةُ الجغرافيّ. ثم هو من قبلُ ومِن بعدُ: بَوْحُ العاشق، ونَفْثةُ المصدُور، وحنين الغريب، وأنينُ الفاقد، وبهجةُ الواجد، ومَرْثيةُ العزيز، وآهةُ المُلْتاع، وتجربة الحكيم. استودعه العربيُّ أسرارَ حياته، واستراح إليه؛ فأفضى إليه بموَاجعه، وبَثَّهُ أشواقه، وقيَّد به المآثِر، وحَفِظَ به الأنساب، واستنفر به العزائم، واستنهض الهمم، وسَجَّل به العادات والتقاليد، وذَكَرَ الأيّام.وقد صحبه في غُدوّهِ ورَواحه، فحدا به رَكُوبَتَه، وأنَسَ به حَلُوبَتَه، ووصف به سماءَه وأرضَه، ونباتَه ونخيلَه، وسُهولَه ووِديانه وجِبالَه، ومياهَه وحيوانَه، أليس هو ديوان العرب؟!».
بلَى... هو ديوان العرب، ومستودعُ حكمتِهم، وحافظُ تاريخِهم، وسِجِلُّ مآثرِهم وانتصاراتِهم، بل وانكساراتهم.
لهم سيرةٌ لم يُعطِها اللهُ غيرَهم وكُلُّ قضاءِ اللهِ فهو مُقَسَّمُ
ونقل ابن قتيبة أجمل أبيات الشعر في شأن، أُورِدُها، وأعلِّقُ عليها:
قال الأصمعيّ: أبرع بيت قالته العربُ، قول أبي ذؤيب:
والنفس راغبةٌ إذا رغَّبتها وإذا تردّ إلى قليلٍ تقنعُ
قلتُ: اختصر أبو ذؤيب تسعة أعشار الدنيا!
وأحسنُ ما قيل في تقدُّم العمر، قولُ حميد بن ثور الهلاليّ:
أرَى بصري قد رابَنِي بعد صحّةٍ وحسبكَ داءً أن تصحَّ وتسلمَا
قلتُ: فلا نامت أعينُ شركات التأمين!
وأحسن من ابتدأ مرثية، أوس بن حجر في قوله:
أيتها النفسُ أجمِلي جَزَعاً إنّ الذي تكرهينَ قد وقعا
قُلتُ: وهل يُعيدُ جزعٌ فقيداً؟!
وأغربُ من ابتدأ قصيدة، النابغة في قوله:
كليني لهمٍّ، يا أميمةُ، ناصبِ وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِ
قلتُ: ليس أبطأ من وقتِ المكلوم.
أحسن بيت قيل في الجُبْنِ، قول نهشل بن حرّي:
فلو كانَ لي نفسان كنت مقاتلاً بإحداهما حتى تموتَ وأسلمَا
قلتُ: وكان شُجاعاً في اعترافه!
وبيتُ المخبّل، في قساوة القلب:
يُبكَى علينا ولا نَبكِي على أحدٍ لنحنُ أغلظُ أكباداً من الإبلِ
قلتُ: أنعِم به فخراً!
وبيت عبيد في الاستعفاف:
من يسألِ الناسَ يحرموه وسائلُ اللهِ لا يخِيبِ
قلت: سبحانَ من يعطي على السؤال!
وبيتُ منجوف بن مرّة السلمي، في الاحتفاظ بالمال:
وأدفعُ عن مالي الحقوقَ وإنّه لجمّ فإنَّ الدهرَ جمٌّ مصائبه
قلتُ: هنيئاً لك استمتاع الوارث بما جَمعتَ!
وبيت مسكين الدارميّ، في الجود:
طعامي طعامُ الضّيفِ والرّحل رحلُه ولم يلهنِي عنه الغزالُ المقنّعُ قلتُ: هل ننبئك بمن يُلهي نفسه، وليس عنده غزال ولا مقنّع؟!
وفي حسن الجوار، قوله:
ناري ونارُ الجارِ واحدة وإليه قبلي تنزلُ القِدرُ
قلتُ: أصبح الناسُ لا يرجونَ من الجيران إلا كفَّ الأذى!
وممَّن رضي بالقليل، جميل فقال:
أقلّب طرفي في السماءِ لعلّه يوافقُ طرفي طرفَها حين تنظرُ
قلتُ: لو أدرك جميلٌ عصرنا، لقلَّبَ طرفَه في هاتفه الجوَّال.
وبيتُ عمرو بن كلثوم، في الجهل:
ألا لا يَجهَلَنْ أَحَدٌ عَلَينَا فنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجَاهِلِينَا
قلتُ: حسبك فخراً، الاعتداد بالجهل!