لا أعرف كيف سيكون حال منطقة الشرق الأوسط ساعة نشر هذا المقال؛ فالأحداث والمواقع تتغير على مدار الساعة في إقليمنا كما لو أن جذوة نار تنتقل بسرعة من منطقة إلى أخرى. ولا بد مما ليس منه بد، وهو البحث عن رابط يربط ما يبدو كما لو كان حرائق مشتعلة لا يربطها بالضرورة منطق؛ ويكون فيها الاستدلال بحثاً عن قطة سوداء في غرفة مظلمة! هناك أربع مجموعات من الحروب والصدامات العسكرية أو العنف عامة وكفى: أولها، بقايا «الربيع العربي» أي تلك الحروب الأهلية الصريحة والعلنية أحياناً، والساكنة في أحيان أخرى التي ترتبت على ما جرى. المشهد هنا يظهر صريحاً في الحالات السورية واليمنية، حيث يوجد الصراع بين حكومة «شرعية» بمعنى تلك الحكومة التي تمثل الدولة في الأمم المتحدة؛ وقسم آخر يمثل شرعية «الثورة» أو «الانقلاب» أو «ميليشيات» متمردة وهكذا حال. وهذه توجد في سوريا واليمن وليبيا والسودان، حيث الحرب تصعد وتهبط بصورة شبه موسمية؛ وتتلامس فيها الإرادات الداخلية مع أخرى خارجية.
وثانيها، مجمع أكثر الحروب شهرة في النظامين الإقليمي والدولي والتي بدأ أوارها وسعيرها مع هجوم «حماس» على غلاف غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وما أعقبها من هجوم إسرائيلي ساحق على كل غزة، وما صاحبها من هجمات للضبط والمقاومة بين إسرائيل والضفة الغربية، وحرب محدودة ومحكومة ومحسوبة - أو هكذا يقال - على الجبهة الإسرائيلية - اللبنانية، وأخرى على الجبهة السورية - الإسرائيلية. هذه حرب تستخدم فيها الصواريخ والمسيّرات، ويجوز فيها الاغتيالات للقيادات؛ والجيش النظامي الوحيد فيها هو الجيش الإسرائيلي، أما ما عدا ذلك فهو ميليشيات «حزب الله» اللبناني، و«حماس» في سوريا ولبنان. وبينما كل هذه الحروب على «البر»، فإن حرب «أنصار الله» الحوثيين في اليمن تجري في البر والبحر؛ وهي منشغلة بالحرب الأهلية داخل اليمن، والدولية مع أساطيل «الازدهار» التي جيّشتها الولايات المتحدة وبريطانيا مع أربعين دولة أخرى. الحرب هنا مشاركة مع حرب غزة في أنها تفعل ذلك من خلال إعاقة الملاحة والتجارة الدولية وفرض الحصار على قناة السويس المصرية. ويتداخل مع هذا المجمع حرب إقليمية ودولية أخرى هي التي تشنّها قوات «الحشد الشعبي» العراقية على قواعد الولايات المتحدة في العراق وسوريا؛ مما أدى إلى قيام الولايات المتحدة بضرب هذه الميليشيات؛ مما أدى إلى احتجاج الحكومة العراقية؛ نظراً لأن هذا القصف اعتُبر اعتداءً على السيادة العراقية.
وثالثها، أن هناك مجمعاً آخر للحروب الإقليمية تقوده إيران التي تورّد السلاح والأموال والتدريب والولاء لمعسكر واسع تقوده طهران تحت اسم «المقاومة والممانعة»، والمقاومة هنا ضد الولايات المتحدة وإسرائيل؛ أما الممانعة فهي منع كل محاولات السلام والتطبيع والبحث عن الاستقرار الإقليمي ما دامت لم تُحلّ «القضية الفلسطينية». ولكن ذلك لا يمنع، على الأقل حتى الآن، من ممارسة إيران ذاتها عمليات عسكرية، حيث قامت بضرب موقع للاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) في أربيل الإقليم الكردي في العراق؛ مما أدى، ولأول مرة، إلى احتجاج الحكومة العراقية التي اعتبرت ذلك اعتداءً على السيادة العراقية، خاصة بعد ثبوت كذب صريح في وجود الموساد. إيران أيضاً قامت بعملية عسكرية طالت «باكستان» عندما قامت بقصف موقعين لميليشيا «جيش العدل» في إقليم بلوشستان الممتد بين إيران وباكستان؛ مما حدا بالأخيرة إلى وصف الهجوم الإيراني بأنه «عمل غير شرعي» وسقط فيه مدنيون ويؤدي إلى «نتائج وخيمة». (قامت باكستان بالرد لاحقاً داخل الأراضي الإيرانية - المحرر).
تركيا هي الأخرى تجري حروبها الخاصة ضد حزب العمال الكردي في شمال سوريا والعراق، وتحتل لذلك منطقة في الأولى، أما في الثانية فهي تقيم قواعد عسكرية مستدامة.
ورابعها، فإن الشرق الأوسط لم يكن ساكناً أو خالياً خلال العقود الأخيرة من العنف الذي تقوم به جماعات الإسلام «السياسي» تحت رايات «القاعدة» و«داعش»، وأخرى يذكر فيها اسم الله؛ ولكن الفعل يكون دائماً ممتداً في ساحة واسعة ممتدة من باكستان شرقاً إلى الصحراء الأفريقية غرباً، ومن «إدلب» السورية إلى ساحل القرن الأفريقي، حيث تنظيم «الشباب» الصومالي.
هذه المجمعات الأربعة من العنف والحرب والنضال من أجل أهداف قديمة وأخرى مستحدثة ترى في الإقليم ساحة لا يزال فيها «النضال» ممتداً منذ الحقبة الاستعمارية في التاريخ. وظيفة الدولة الإقليمية هنا هي للتعبئة وتشديد التحالف بين القوى المحلية لتعزيز المواجهة مع الدول العظمى، وتيارات «العولمة» و«الحداثة»؛ وأحياناً كل ما يخالف أو يختلف مع الدين. هنا لا يوجد قاموس للتنمية والتقدم والبناء، اللهم إلا في سياق بناء القدرات العسكرية، وفي إيران الوصول ببرنامجها النووي إلى بر الأمان. كل ذلك لم يمنع «الربيع العربي» من إنتاج تيار إصلاحي قوي بلغ حد «الثورة الإصلاحية» في المملكة العربية السعودية التي كانت الأكثر محافظة، وتمكن في مصر من التخلص من «الإخوان المسلمين» أصحاب الريادة التاريخية لتيار الإسلام السياسي؛ وشمل معهما دول الخليج العربية والأردن والمغرب، وجميعهم صمدوا في وجه «الربيع» المزعوم الذي لم يولد لا فكرة ولا زهرة ولا نسمة.
المعضلة هنا هي أن «الإصلاح» ويعني الكثير من البناء والتغيير لا يبقي الكثير من الطاقات لدى النخب السياسية لعمليات الاستنزاف والحصار الجارية من الحروب الإقليمية السابقة. ولا توجد طريقة لمواجهة تحديات ما يجري دونما إقامة توازن للقوى، لا يكتفي بالقوة العسكرية، أو الاقتصادية شاملة المالية وحدها، وإنما يكون فيها القوة الناعمة والذكية، حيث المستقبل لا يقل أهمية وتركيزاً عن الماضي؛ وحيث الحياة الدنيا لا يكون الاهتمام بها أدنى من الموت. تحقيق هذا التوازن يمكن من خلال بناء تحالف إصلاحي يشمل كل من يريد النجاة من المحرقة.