عندما اتخذ العلماء المستقبل موضوعاً ومادة للبحث من أجل تحقيق حياة أفضل، أعدوا الكثير من التقارير العلمية والتقديرات المهددة دوماً بالخطر، وسلسلة أرقام وإحصاءات متنوعة رافقها سباق محموم نحو التسلح، نتج من هذه الأبحاث الكثير من المتغيرات في الحياة العامة للبشر؛ إذ بذلوا أقصى ما بوسعهم لتعويض الإخفاقات بمسوغ كافٍ لإعفاء الغرب من المسؤولية التاريخية، واكتفوا بمشاهدة تساقط أوراق الخريف التي حجبت آثار الموت البادية على وجه الأرض.
لقد مكثت الحقائق هناك واستمر استقراء واستشراف المستقبل بما فيه من أنظمة وعقائد وآيديولوجيات لتحويل العالم إلى تقرير اقتصادي وكيفية تعمل بها الحروب لفناء الإنسان على يد الإنسان بطرق مختلفة، فكل شيء تعرض لاستنزاف متواصل، وعوامل تدميرية، لا سيما فكرة اتساع رقعة الحرب في الشرق الأوسط وحرب روسيا على أوكرانيا، وتضاءل استشعار مدى الخطر الذي يحدق بفلسطين وجنوب لبنان وسوريا والعراق واليمن، فالحروب ما زالت مستمرة.
الحرب في أوكرانيا قاربت دخولها عامها الثالث من دون أي أفق سياسي لوقفها، والأزمة وصلت إلى نقطة اللاعودة، ولم يكد عام 2023 يستنفد أيامه الأخيرة حتى جاء تحدٍّ جديد من الجبهة الغربية، وهذه المرة من فنلندا، التي اتخذت موقفاً تصعيدياً جديداً ضد موسكو بسماحها بنشر قواعد أميركية على أراضيها تزامناً مع إغلاق كافة المعابر الحدودية معها، ما ينذر بمواجهة جديدة على الحدود الغربية للبلاد التي باتت أكثر من أي وقت مضى قريبة من خطوط التماس مع القوات الأميركية والأطلسية.
فهناك شعور لا يبعث على التفاؤل؛ لأن من يجعل الحرب غاية له، كمن يعالج داءً مزمناً بمسكنات، فمن بوسعه اليوم الانتباه لأوضاع ضحايا الحرب غير تلك الإحصاءات الرسمية، وغياب موقف موحد من المجتمع الدولي علامة على استبداد القوة وتطبيقها من دون رحمة، فالحرب يتصاعد اشتعالها لتبدو نوعاً من حرب عالمية من جهة، ومن جهة أخرى تحالفات غربية مع إسرائيل في حربها.
وإن كانت الحروب ميدانها محصور في جغرافية دول المنطقة، واحدة منها حرب غزة، حيث الدمار الذي قتل سكانها، فليس من المستغرب أن تقع شعوب بأكملها تحت براثن اليأس حين تشتعل الحروب بدعوى تحقيق السلام، فقد حطت البربرية بظلالها على وسائلهم لتطهير المجتمع من فئة قليلة راح ضحيتها أكثر من 88 ألفاً بين قتلى ومفقودين ومصابين، ومع ذلك ترى الخارجية الأميركية أن ذلك لا يمثل إبادة جماعية.
إن قدر الغزيين جعلهم وقوداً تؤجج النيران على أرضهم، حيث يواصل الجيش الإسرائيلي قصفه المكثف وعملياته البرية في القطاع؛ إذ قُصفت بيوتهم وشوارعهم لتحقيق أهداف إسرائيل وأطماعها، فمن الخطأ أن تثق في عالم تم تصنيفه بالعالم الأول صنع للحياة تقنيات مذهلة، ثم أعقبها فشل ذريع جعله يقوم بدور الجلاد المستعبد والمحارب البطل، وهو في الحقيقة لا يعي معنى الإنسانية وحقوق الإنسان والأرض.
إنها جملة تدابير اتخذت، من أجل صاحبة المكانة عند حلفاء أميركا بعيداً عن الإدراك، ومن نجا بأعجوبة من القصف يخشى الوقوع تحت المقصلة وبطش ديكتاتورية لا ترحم، وهم ينتظرون تحقيق العدالة من المجتمع الدولي ليحميهم من قوة فاسدة السلوك وعدوانية تفكر وتخطط وتنفذ بمباركة القوى العظمى التي تتوقع ما سوف يحدث.
ما يدور اليوم في العالم يعكس بجلاء واقع التحديات المطروحة جراء الاشتعال المتصاعد في حروب أوكرانيا والسودان وغزة، رافقت هذه الحروب رهانات وأهداف كبيرة ظهر بعضها مبنياً على حسابات غير واقعية، وبعضها الآخر على تصورات خاطئة، فلم تعد هناك وسيلة يُعتمد عليها سوى وتيرة مستمرة معظمها أدى إلى نتائج معاكسة أو غير محسوبة ترفض نفض الغبار عن بعض مرتكزاتها ليظل تأثيرها قائماً في تشكيل المستقبل.
محصّلة ذلك كله، الدعم اللامحدود لإسرائيل من أميركا وحلفائها الذي أدى إلى الإضرار بالصورة التي تقدمها كضامن لحقوق الإنسان والقانون الدولي، والسؤال يظل مطروحاً حول من بإمكانه إعادة الحياة إلى سابق عهدها وإيقاف الحرب، وهل يتعين على واشنطن في العام الجديد 2024 وحلفائها أن يعملوا على إيجاد توازن بين الانتقام وردع الهجمات المؤدية إلى صراع أوسع نطاقاً؟
ظلّ أن نشير إلى أن عامنا الجديد 2024 استمرار لأحداث العام الذي سبقه 2023 وامتداد للكثير من النزاعات، ثم ستجرى خلاله انتخابات عدة؛ إذ سيتوجه إلى صناديق الاقتراع أكثر من ملياري شخص في 50 دولة، بما في ذلك الهند وإندونيسيا والمكسيك وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة والدول السبع والعشرون الأعضاء في البرلمان الأوروبي، إذا قلنا إن الصيغة الاقتصادية لهذه الدول التي ستشهد انتخابات عام 2024 ما نسبته 60 في المائة من الناتج الاقتصادي العالمي...
لذا ليس من قبيل الصدفة أن نجد الكثير من النزاعات والحروب؛ إذ يبدو أن السياسة العالمية اتخذت قرارات معاكسة وتشريعاً لم ينظم العمل وقوانينه حتى أصبحت أكثر غموضاً مما كانت عليه منذ سنوات، فأزمة السفن التجارية في البحر الأحمر تشير إلى مستقبل غير واضح لآفاق التجارة العالمية، في هذه الحالة لكل حرب تداعيات، وما نشهده اليوم هو امتداد للحرب بين إسرائيل و«حماس» في غزة.