باسم الجسر
كاتب لبناني
TT

من النهضة والإصلاح إلى.. التشرد والغرق

مشكلة المحن المصيرية التي تتعرض لها بعض الدول والشعوب العربية هي في وفرة الأسباب الكامنة وراءها أو المحركة لها وكثرة عدد المتدخلين فيها. ومن هنا صعوبة أو شبه استحالة التوصل إلى تفاهم سياسي وطني أو إقليمي أو دولي لتجاوزها. وليس أدل على هذه الصعوبة من غموض وحيرة واشنطن وموسكو إزاء الحرب الأهلية في سوريا، ولا سيما تصريحات وزيري خارجيتيهما الأخيرة. أي قول الوزير الأميركي بأن الحل في سوريا يقضي بذهاب الأسد ولكن ليس فورًا. وتأكيد الكرملين على أن روسيا حريصة جدًا على مصالحها التاريخية في سوريا - تبريرًا لتعزيز وجودها العسكري الأخير فيها، وأن الحل متروك للشعب السوري.
والمشكلة الجديدة التي أضيفت إلى جبل المشاكل الجاثم على المصير السوري هي في أن هذا الكلام يأتي في الوقت الذي تفرغ فيه سوريا من شعبها يوما بعد يوم، وباتت فيه الأولوية الدولية لما يسمى بمحنة الشرق الأوسط هي الحرب على الإرهاب أي «داعش» وأمثالها، وليس مصير الحكم أو الشعب في سوريا أو تحرير الأراضي العراقية المحتلة منها أو... السلام في الشرق الأوسط.
«الحرب على الإرهاب» باتت نقطة التلاقي الوحيدة بين موسكو وواشنطن بل والدول العربية أيضًا. ولكن العجيب هو الطريقة أو نوعية الأسلوب الذي تحارب الدول الغربية به «داعش» ونعني القصف الجوي الذي يتفق الخبراء العسكريون على القول بأنه لم يلحق بـ«داعش» الأضرار الكافية لتحجيمها أو ردعها أو القضاء عليها، وأن الحرب الحقيقية والناجعة هي بإرسال قوات عسكرية أرضية لمقاتلتها في العراق وسوريا. ويبقى السؤال: هل تكون هذه القوات دولية أم عربية أم إسلامية؟
يبقى أن جميع الأطراف تأخذ على الولايات المتحدة ترددها وسلبيتها وازدواجية استراتيجيتها الجديدة في الشرق الأوسط. كما أخذ عليها في الماضي القريب إرسال قواتها العسكرية أكثر من مرة لحسم النزاعات بين دوله ولاحتلال العراق وأفغانستان في عهد الرئيس بوش، مع العلم بأن هذا التردد أو السلبية ليس مسألة مزاجية متعلقة بالرئيس أوباما بل هو استجابة للرأي العام الأميركي من جهة ورد على اتهام الولايات المتحدة السابق بالتدخل في شؤون المنطقة.
بطبيعة الحال ورغم تمادي الأزمات والمحن والحروب الأهلية في سوريا واليمن والعراق وليبيا، فإن الأوضاع الراهنة اليوم تختلف عما كانت عليه منذ عام أو عامين وقبل الربيع العربي التعيس التداعيات. فالاتفاق النووي بين الدول الكبرى وإيران هز نوعًا ما العلاقات الأميركية - العربية، رغم أن واشنطن سارعت إلى تطمين المملكة العربية السعودية ودول الخليج بأن هذا الاتفاق لم ولن يؤثر على صداقاتها العربية وسياستها في الشرق الأوسط.. ولكن المشكلة في هذا الصدد ليست أميركية بل هي إيرانية بامتياز. فرفع العقوبات سوف يوفر لطهران مداخيل مالية تمكنها من مضاعفة إنفاقها على مشروع هيمنتها على المشرق. فماذا سيكون عليه موقف واشنطن من طهران بعد هذه الهدية المالية غير المباشرة التي قدمتها لها؟ خاصة أن هناك تيارًا في الإدارة الأميركية يقول بضرورة التعاون مع إيران في الحرب على «داعش» وحل القضية السورية، وذلك رغم أن تصريحات مرشد الثورة الإيرانية لا تبشر بأي نية تغيير في سياستها الخارجية.
من الحلول الحاسمة، التي تقترحها بعض الأوساط الدبلوماسية الغربية، اتفاق أو صفقة روسية - أميركية شاملة لكل أسباب الحرب الباردة الجديدة بينهما. ولكن ذلك يتطلب أشهرا وسنوات للتوصل إليه. وليس أكيدا قبول الأطراف العربية بفرضه عليها. كذلك من بين الحلول التوصل إلى اتفاق عربي - أميركي - روسي على القيام بحملة عسكرية برية للقضاء على «داعش»، مما يسهل معالجة المحنتين السورية والعراقية. إنه الحل العملي الأقرب إلى حلحلة تشابك الأزمات في المنطقة. ولكن ما هي الدول العربية التي ستشارك في هذه الحملة العسكرية، علما بأن بعضها يقاتل على أكثر من جبهة؟
وأما الحل الذي يقضي بتدريب قوات من المعارضة السورية المدنية والقوات العسكرية العراقية فإننا نسمع به منذ سنوات ولم نلمس أي خطوة جدية لتنفيذه.
تلك هي الخطوط الكبرى لما تدهورت في أعماقه ودياجيره الأمة العربية بعد قرن من النهضة وثلاثة أرباع قرن من استقلال شعوبها ودولها. سمه ما شئت: محنة أو مأزقًا مصيريًا أو انفجارًا قوميًا أو تفككًا وطنيًا. أما الحقيقة فهي أننا أمام حروب قد تمتد لسنوات، وأن الدول الكبرى لم تعثر - وربما لا تريد أن تعثر - أو تتفق على حل لها. وإذا نجونا منها يومًا فلسوف نكتشف أننا تراجعنا بأوطاننا إلى أردى مقام بين الدول.
ترى هل ناضل آباؤنا وأجدادنا أجيالاً وعقودًا من أجل التحرر والاستقلال وبناء الإنسان العربي الجديد، لتصل بنا الأقدار إلى أن نتحول إلى طوابير من اللاجئين إلى الغرب أو.. غرقى على شواطئ البحر المتوسط؟!