لا أذكر أنَّه سبق في تاريخ الانتخابات الرئاسية في لبنان أن انعكس عمق الانقسام الطائفي في البلد بهذه الحدة على صورة المرشحَين المتنافسَين. حتى في زمن الحرب الأهلية التي حصل خلالها انتخاب 3 رؤساء للجمهورية، لم يكن ترشيح الفائز محصوراً بدعم طائفة معينة دون سواها، والأمر ذاته بالنسبة إلى المرشح الخاسر.
ما يحصل اليوم يدفع إلى الأسى على ما وصلت إليه أحوال لبنان. مزرعة طائفية بامتياز. مرشح يدعمه فريق شيعي في وجه مرشح يدعمه ائتلاف مسيحي، قررت أطرافه التضامن ودعم ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور، كي لا تترك ساحة المواجهة فارغة لمرشح «الثنائي الشيعي» الوزير السابق سليمان فرنجية، وكي ترد على منتقدي الخلاف المزمن بين القوى المسيحية والدعوات التي كانت تطالبها بضرورة التلاقي.
أسباب كثيرة دفعت إلى أخذ الصراع على كرسي الرئاسة هذا الطابع الطائفي. غير أن السبب الأهم هو الطريقة التي تعاطى بها الفريق الداعم لترشيح فرنجية مع هذا الترشيح. جاء ذلك على طريقة أوامر لا تقبل الرد: هذا مرشحنا ولا مرشح سواه. وكل ترشيح ضده يعد مناورة وتحدياً ورغبة في المواجهة.
كلام، عدا عن كونه يعبّر عن استفزاز وفوقية لا يفترض أن يكون لهما مكان بين شركاء في الوطن، فإنه يعبّر أيضاً عن استهتار بالعملية الديمقراطية، وهي تقوم بطبيعتها على المواجهة والتحدي بين مرشحين، يفوز منهم من يفوز ويفشل من يفشل.
«حزب الله» لا يعير اهتماماً لذلك، ويشعر بقلق حيال احتمال خسارة نفوذه على الساحة السياسية، الذي اعتاد استثماره منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، إلى حرب يوليو (تموز) 2006 مع إسرائيل، إلى الأحداث الدامية التي شهر فيها سلاحه في الداخل في مايو (أيار) 2006، وصولاً إلى تكريسه فرض «الثلث المعطل» (الذي سُمي تلطيفاً: الثلث الضامن) داخل الحكومات، بعد انتخاب الرئيس ميشال سليمان، الذي جاء ثمرة لمواجهات 2008، وذلك بهدف منع اتخاذ أي قرار في مجلس الوزراء لا يوافق عليه «حزب الله» أو يخالف مصالحه.
بدعٌ قانونية لا هدف منها سوى تكريس هيمنة فريق على الأطراف الأخرى، بواسطة رهبة السلاح التي كان يتم التعبير عنها عند كل مأزق يواجهه «حزب الله» بلغة: لا تجرّبونا. أو: هذه فرصتكم الأخيرة للحصول على ما هو معروض عليكم، وإلا فستندمون. أما الواسطة الأخرى فكانت التفاف كل الأصوات الشيعية في مجلس النواب حول رأي واحد، تقرره القيادتان في عين التينة وحارة حريك، ولا يُسمح بعده بأي نقاش. هذه الظاهرة الاستثنائية في تاريخ الكتل الطائفية في لبنان، (بما فيها الطائفة الشيعية)، التي كانت تشهد دائماً تنافساً داخلياً في صفوفها، هي التي دفعت إلى هذا الانقسام الطائفي العمودي الذي أدى بالأزمة الرئاسية في لبنان إلى ما هي عليه: تكتل مسيحي واسع حول مرشح منافس لسليمان فرنجية، لسبب واحد، هو رفع الصوت لحماية موقع يرى المسيحيون أنه آخر المواقع التي يمكنهم المحافظة عليها في التركيبة اللبنانية.
لم يكن قراراً عادياً أن يخرج «التيار الوطني الحر» على «تفاهمه» مع «حزب الله»، وينضم إلى القوى المسيحية التي رأت أن اختيار رئيس للجمهورية هو «حق» لها، وترفض أن يُفرض خيار آخر عليها. هذا «الحق» تمارسه الطوائف الأخرى أيضاً في «مزرعة الطوائف»، كما يحصل عند اختيار رئيس الحكومة السني، أو رئيس مجلس النواب الشيعي. الالتفاف الطائفي دفع «التيار»، الحليف المسيحي الأساسي الذي كان يعتمد عليه «حزب الله» لإشاعة صورة «وطنية» تغطي هويته المذهبية، إلى التخلي عن «التفاهم» مع الحزب والعودة إلى المظلة الطائفية بالشراكة مع خصمين قديمين هما «القوات اللبنانية» وحزب «الكتائب».
لم يستسهل «حزب الله» هذا التحدي لنفوذه الذي أصبح شبه مطلق على الساحة اللبنانية. مع المرشح الأول النائب ميشال معوض، الذي طُرح اسمه منافساً لفرنجية، كانت حملة الحزب للتشهير به أكثر سهولة. اتهامات من كل نوع: مدعوم أميركياً. متحامل على المقاومة. لا يؤمَن جانبه لأنه يمكن أن يطعن «حزب الله» في الظهر... صار المطلب أن يؤتى برئيس لحماية «حزب الله» لا لإنقاذ لبنان.
مع جهاد أزعور، المرشح الحالي الذي التفّت قوى المعارضة حوله، وانضمّ إليها «التيار الوطني الحر»، تنطلق اتهامات من نوع آخر: موظف كبير في صندوق النقد الدولي وبالتالي مرضيّ عنه أميركياً. وزير سابق للمال في حكومة فؤاد السنيورة التي حاصرها «الثنائي الشيعي» بعد عام 2006... لم تشفع لأزعور صلة النسب التي تربطه بالوزير السابق الراحل جان عبيد، الذي كان يتمتع بعلاقات وثيقة مع القيادة السورية ومع معظم القوى السياسية اللبنانية.
في المواجهة المنتظرة يوم الأربعاء 14 يونيو (حزيران) بين فرنجية وأزعور، إذا اكتمل نصاب الجلسة النيابية، لا يتوقع كثيرون «معجزة» تُخرج رئيساً من صندوق مجلس النواب. محاولات كثيرة تجري من أطراف خارج الاصطفاف والانقسام الحاد، لمحاولة التفاهم على مخرج يسمح باختيار رئيس للبنان، وليس رئيس للمسيحيين. صحيح أن رئيس الجمهورية في لبنان مسيحي، لكنّ صلاحياته تفرض أن يكون قائداً للاعتدال، حامياً للوحدة الوطنية، ضامناً لتطبيق الدستور.
كم يبدو توافر هذه الصفات صعباً اليوم، مع الانقسام الطائفي الحاد في لبنان. لكنّ لبنان عرف في تاريخه رؤساء تحلّوا بهذه الصفات.