في خطاب النصر شكر إردوغان الله على الانتصار، ودعا إلى رأب العلاقة مع العرب، وتهجم على الغرب، وبشّر بما أسماه القرن التركي. هذا الخطاب جاء على خلفية معركة انتخابية وقف الغرب فيها ضده، ودعمه الروس، وتمنى الصينيون فوزه، وترقب العرب بقلق النتائج. لا قلق على الغرب من فوز إردوغان؛ لأنه يملك أوراقاً قوية لمواجهته، وقادر على تمرير الوقت لأن عينه على ما بعد إردوغان، وعلى استعادة تركيا لتكون في منظومته؛ وكذلك الصين يهمها فوز إردوغان لأنها تدرك أهمية تركيا الجيوسياسية في موازين الغرب. أما روسيا بقيادة الرئيس بوتين فتعلق عليه آمالاً كبرى؛ لأن بوتين يثق بشخص إردوغان وليس بمؤسسات تركيا؛ هنا تصبح علاقة بوتين متميزة؛ لأنه يراهن على الشخص وليس على الدولة، وكان قد صرح بأن مصالح روسيا متضاربة مع تركيا، لكنه يثق بإردوغان؛ السبب أن تركيا صمام أمان لبوتين المحاصر اقتصادياً وعسكرياً وتجارياً وسياحياً ومالياً.
اللافت في خطاب إردوغان تشديده على شكر العناية الإلهية لإفراده تركيا بقيادة الأمة الإسلامية في الماضي، ورجاؤه أن تستعيد الدور لما سماه القرن التركي القادم. هذا الدور لخّصه بأن تركيا ستركن للغرب حفاظاً على مصالحها، لكنها لن تضحي بعلاقاتها ومصالحها مع روسيا والصين؛ هذا يعني أنه قرر سلفاً أن يتابع سياسته السابقة التي أزعجت الغرب، وجعلته يشكك في مصداقية تركيا كشريك في حلف الناتو؛ وهذا نابع من قناعته أنه يملك أوراقاً كافية، وأن الجميع لا يريدون أن يخسروه؛ لهذا لفت الانتباه إلى انفتاحه على العالم العربي، وتشديده على بناء علاقة بنّاءة مع دول الخليج التي رممت علاقاتها معه بعد اعترافه بمصالحها، ومنحته الدعم في الحملة الانتخابية بضخها مليارات في البنك المركزي التركي لحماية الليرة من التراجع، ومكّنته من تقديم حوافز مالية للناخبين، ساهمت في إرضائهم وكان لها دور بالإضافة إلى سياسة زيادة الإنتاج في تحريك السوق التركية التي شهدت نمواً وصل إلى 4 في المائة. ولعل مصادقة الإمارات على اتفاقية التعاون الهادفة إلى رفع التجارة بين البلدين في القطاعات غير النفطية إلى أربعين ملياراً، وإيداع المملكة وديعة بقيمة خمسة مليارات في البنك المركزي، علاوة على استثمارات قطر الكبيرة، وإيداعاتها في البنك المركزي، لدليل على عمق المصلحة الكبرى لتركيا في هذه العلاقة. وبفضل هذه العلاقة مع دول الخليج تفهّم إردوغان مصالح مصر في ليبيا، واستجاب كذلك لمطالبها بتسلميها ورقة «حماس» التي تعدّها القيادة المصرية حكراً عليها؛ لذلك فإن مسارعة رئيس دولة الإمارات قبل غيره إلى تهنئة إردوغان، ثم الرئيس المصري، يؤشر فعلياً على تشكل تيار جديد في المنطقة يتأسس على تعميق المصالح كمنصة لحل الخلافات والإشكاليات والتهديدات التي تعيشها المنطقة. وهذا يعني أن تركيا والدول العربية الفاعلة والقوية اقتصادياً سيتوصلون حتماً إلى تسوية تصون المنطقة أمنياً واقتصادياً، ولن تعارض بالتأكيد الدول الكبرى سواء أمريكا أو روسيا أو الصين هذه التسوية؛ لأن ليس لهم مصلحة من وراء ذلك؛ هذا سيؤدي حتماً إلى خلق توازن قوى حقيقي مع إيران، وسيدفع إسرائيل إلى حساب مخاطر تجاهل المطالب العربية والإسلامية العادلة.
إذا ما رسخ إردوغان هذا التحالف فسيتمكن من تحقيق أهداف عدة؛ سينعش اقتصاد بلاده من جراء ضخ المليارات فيه، وستنفتح أبواب المنطقة أمام المنتجات التركية، والأهم أن الآيديولوجية الإسلامية التركية هي الأخرى ستخضع للقولبة؛ وإذا ما تحقق ذلك فستشهد المنطقة العربية انحساراً للخصام الديني، وسيظهر «إسلام جديد» بحلة لا تثير فزع الغرب، وسيكون هذا «الإسلام الجاذب» منافساً إيجابياً للآيديولوجية الإيرانية المتأزمة. هذا كله سيؤدي حتماً إلى تحقيق أمرين مهمين إذا صدقت النوايا، إيجاد تسوية للجرح النازف في سوريا، وفك الاشتباك الأهلي في ليبيا؛ لأن الانفتاح العربي الأخير على النظام السوري وقبوله في الجامعة العربية لا يكفي وحده لتحقيق ما يطلبه العرب من النظام السوري؛ فالتحالف الجديد مع تركيا، سيُمكّن العرب، بحكم الوجود التركي العسكري الضارب على الأرض السورية، ومخاوف تركيا من تبعات تفكك سوريا، من إقناع روسيا والصين للضغط على الأسد لينفذ مبادرة «خطوة خطوة» العربية، التي تجاهلها في خطاب العودة للجامعة العربية. وفي ليبيا سيضمن التحالف كذلك مصالح تركيا المعقولة، مقابل تسليمها بمصالح مصر في الجوار الليبي، وقيادة المصالحة بين أطراف النزاع الليبي؛ وتدل بعض المؤشرات على تقدم محتمل في هذا المسار.
إردوغان لديه مشكلة كبرى مع الاقتصاد، ولا يمكن حلها إلا بمصالحة مع جيرانه العرب (دول الخليج) القادرين مالياً، والطامحين للاستثمار، وإلى تبادل المعرفة التكنولوجية مع تركيا؛ والعرب لديهم مشكلة تتمثل بتغول الميليشيات على دول عربية مهمة؛ ولذلك فإن دول الخليج، كلاعب مؤثر، من مصلحتها إنقاذ هذه الدول المخطوفة من دوامة التدمير الذاتي، والبدء بترميم اقتصادها. وهذا يتقاطع تماماً مع مصلحة إردوغان في سعيه لتحقيق قرن تركيا، ولا بد له لتحقيق ذلك من الانفتاح الحقيقي على جيرانه العرب، والعمل معهم لتحقيق أهداف مشتركة تعود بالخير على الجميع. ويعرف إردوغان أكثر من غيره فضل دول الخليج على تركيا من خلال استثماراتهم الضخمة في فترة الثمانينات، ودعمهم أيضاً الحركة الإسلامية التركية المعتدلة، وذلك قبل أن تفترق الطرق بينهما في أعقاب الربيع العربي.
إن التنافس التركي - العربي ساهم في العقد الأخير في تقويض إنجازات الماضي، وخسر فيه الطرفان الكثير، ومن العبث الاستمرار به، وهذا بذاته قد يكون سبباً وازناً وراء تغير خطاب إردوغان وسعيه مع دول الخليج لبناء شرق أوسط واعد.