كتبت مقالاً في هذه الصحيفة في مارس (آذار) من العام الماضي، أعربت فيه عن رأي مفاده أن الصين ربما تكون الدولة الوحيدة التي لديها النفوذ للقيام بالوساطة لإيجاد تسوية سياسية في أوكرانيا، غير أنها لن تقْدم على ذلك إلا إذا شعرت بأن استمرار الحرب سيُضعف روسيا، الحليف الذي لا غنى عنه، بالقدر الذي لن يعود يسمح لها بالإسهام بفاعلية في إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب، يضع حداً لهيمنة الولايات المتحدة.
وكانت وجهة نظري، وما زالت، هي أن بكين لن تشرع في مثل هذه العملية، المحفوفة بقدر لا بأس به من المخاطر، إلا إذا شعرت بأن موسكو على استعداد لتقديم تنازلات من شأنها أن تجعل التسوية السياسية ممكنة، وهو الأمر الذي قد يحتاج إلى دَفعة من بكين.
وغنيٌّ عن القول أن إقدام بكين على مثل هذه الخطوة سيعتمد على تقييمها لمدى استعداد الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، للتحرك بشكل إيجابي نحو التسوية.
أما الآن، ورغم أن التطورات على الأرض لا توحي بوجود مرونة لدى موسكو ولا لدى كييف، فإن الظروف الدولية تبدو أكثر نضوجاً بالنسبة إلى فرص قيام الصين بالوساطة.
فالإرهاق بدأ يتسلل إلى الكثير من الدول الغربية بشأن مواصلة مستوى الدعم العسكري نفسه الذي اعتادت تقديمه إلى أوكرانيا.
فمن دون اتضاح الرؤية بشأن نهايات الحرب، قبل بداية المراحل الحاسمة للانتخابات الرئاسية الأميركية في الخريف القادم، ستزداد شكوك الرأي العام الأميركي في جدوى استمرار دعم كييف إلى ما لا نهاية. فإذا لم تستغلّ الإدارة الأميركية الفسحة المتاحة حتى نهاية العام لاتخاذ موقف أكثر مرونة تجاه التسوية السياسية في أوكرانيا، لن تستطيع واشنطن تعديل موقفها بعد ذلك. فلا يمكن لأي مرشح رئاسي أميركي، ناهيك بمرشح يشغل منصب الرئيس، أن يعرّض نفسه للهجوم، من منطلق أنه يمارس الضغط على كييف لخفض سقف مطالبها لتحقيق التسوية السياسية.
كذلك، هناك مؤشرات على بداية تحول في الرأي العام في الدول الأوروبية المركزية. فالوضع الاقتصادي ما زال متأزماً، وليست هناك بوادر للتحسن في الأفق القريب، كما أن هناك شعوراً متزايداً بأن أوروبا تدفع ثمن الحرب في أوكرانيا بينما الولايات المتحدة تجني ثمارها.
فإذا لم ينجح الهجوم المضاد الأوكراني، المتوقع خلال الربيع الحالي، في فرض واقع جديد يدفع موسكو للتفاوض، سيكون من الصعب تبرير استمرار الغرب في الحفاظ على مستوى الدعم العسكري نفسه.
إضافةً إلى ذلك، يبدو أن مشكلةً بدأت تَلوح في الأفق بشأن قدرة كلٍّ من الولايات المتحدة وأوروبا على مدّ أوكرانيا بالسلاح بنفس الوتيرة التي دأبت عليها منذ اندلاع الحرب. فالصناعات العسكرية على جانبَي المحيط الأطلسي تواجه صعوبات في الوفاء بالوعود الحالية، فما بالك إذا استمرت الحرب لفترة طويلة، إلى درجة أن البريطانيين بدأوا في تسريب أنه ليس لديهم مخزون كافٍ من الذخيرة لخوض حرب.
هذا بالإضافة إلى وجود مؤشرات على أن الصين بدأت في اتخاذ خطوات عملية في اتجاه الوساطة. فبعد أن طرحت في فبراير (شباط) الماضي «خطة للسلام» في أوكرانيا، تابعتها بالمكالمة الهاتفية في 26 أبريل (نيسان) الماضي، التي طال انتظارها، بين الرئيسين شي جينبينغ وفولوديمير زيلينسكي، التي جاءت بمبادرة من الأخير وفقاً لوسائل الإعلام الصينية، والتي أشار خلالها الرئيس الصيني إلى أنه سيرسل مبعوثاً إلى أوكرانيا ودول أخرى للعمل من أجل إيجاد تسوية سياسية، ثم بدأت الصين تنشط في اتصالاتها مع دول نامية، مثل البرازيل، لتشكيل مجموعة من الدول للقيام بجهود الوساطة، وهو الخيار الذي لطالما فضّلته بكين.
من ناحية أخرى، يبدو أن روسيا لم تعد قادرة على تحسين الوضع على الأرض لصالحها بشكل كبير، وذلك في الوقت التي أبدت فيه ترحيبها بالدور الصيني في إيجاد تسوية سياسية، الأمر الذي انعكس في البيان الختامي الصادر في ختام زيارة الرئيس الصيني لموسكو في مارس الماضي، بعدما كان رد فعل موسكو الأوّلي فاتراً تجاه خطة السلام الصينية، حيث أشار البيان إلى أن روسيا ترحّب بـ«استعداد الصين للعب دور إيجابي في المجالين السياسي والدبلوماسي في تسوية الأزمة الأوكرانية»، مع الترحيب بـ«المقترحات البنّاءة المنصوص عليها في موقف الصين من التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية»، وهذا يحدث في الوقت الذي من المتوقع فيه أن روسيا ستبدأ بالشعور بوطأة العقوبات في المستقبل القريب، عندما لن تكون قادرة على الحصول على الكمية والنوعية الكافيين من الرقائق الدقيقة المطلوبة للحفاظ على إنتاجها الصناعي، لا سيما في المجال العسكري.
أخيراً، نشهد أيضاً تحولاً في مواقف كل من الولايات المتحدة وأوكرانيا.
ويبدو أن الرئيس زيلينسكي، بعد مكالمته مع الرئيس شي، أبدى ترحيبه بوساطة الصين.
كذلك يبدو أن الولايات المتحدة، بعد أن كانت قد اتخذت موقفاً سلبياً تجاه خطة السلام الصينية، لم تعد ترفض وساطة الصين. فخلال الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة، في 3 مايو (أيار)، أعلن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أنه «من حيث المبدأ، لا حرج في ذلك إذا كانت هناك دولة، سواءً كانت الصين أو دول أخرى لها تأثير كبير ومستعدة للسعي لتحقيق سلام عادل ودائم. نحن نرحّب بذلك، ومن الممكن بالتأكيد أن يكون للصين دور تلعبه في هذا الجهد. وقد يكون ذلك مفيداً جداً».
كما أشار بلينكن إلى أن هناك بعض العناصر «الإيجابية» في خطة السلام الصينية، في إشارة إلى أنها تتضمن «احترام سيادة واستقلال وسلامة أراضي جميع البلدان»، ما يعني انسحاب القوات الروسية، «و الحد من المخاطر الاستراتيجية»، والموافقة على «عدم استخدام الأسلحة النووية»، واتخاذ خطوات «لتهدئة الموقف تدريجياً، والتوصل في نهاية المطاف إلى وقف شامل لإطلاق النار».
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الموقف يأتي في سياق سعي الولايات المتحدة إلى التركيز على تحديد مجالات التعاون مع الصين، في علاقة تنافسية متزايدة، لا سيما بعد حادثة البالون الصيني في فبراير الماضي.
وفي هذا الصدد، من المهم التنويه إلى أن صحافي «واشنطن بوست» المعروف، ديفيد إغناتيوس، الذي أجرى مقابلة مع بلينكن في اليوم العالمي لحرية الصحافة، أشار في مقال يوم 4 مايو إلى أن مسؤولين في الإدارة «لديهم فضول بجهود السلام الصينية»، كما يعتقدون أن قيام الصين بالوساطة هو «الضمان الوحيد لعدم معاودة روسيا القتال بعد التوصل إلى تسوية سياسية».
كل ما تقدم هو مؤشرات على أن الصين ربما تكون قد بدأت في تفعيل دورها في الوساطة.
فإذا لم يتم استغلال الفرصة المتاحة لتحقيق تسوية في أوكرانيا قبل دخول الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة مراحلها الحرجة، سيكون سيناريو كوريا هو الأرجح في أوكرانيا: خطوط تماس مجمدة، ومنطقة منزوعة، ومجرد هدنة دون وجود عملية سياسية، ولن تستطيع موسكو ولا كييف تحقيق الحد الأدنى من أهدافهما، كما أن شكل العلاقة بين روسيا والغرب، بما في ذلك مسألة الأمن الأوروبي، ستؤجل إلى المستقبل البعيد، والنظام الدولي سيستمر قدماً نحو مستقبل غير واضح المعالم.