لست مجنونا كنابليون!

في السيارة التي تقلني من مطار أورلي إلى محطة قطار الشرق لم أشأ أن أتوقف لحظة واحدة في باريس. الذكريات تضغط على قلبي. أصبحت أخاف على حالي من حالي. أصبح لي تاريخ متراكم في هذه المدينة، تاريخ منسي يتفجر دفعة واحدة، ولا أستطيع منه فكاكا:
يحب قلبي خباياه ويعبدها
إذا تبرأ قلب من خباياه
مقاهي «السان ميشيل» و«الشاتليه» تتوالى أمامي كشريط سينمائي. لا أعرف لماذا مر السائق من هنا. هل يريد أن ينكأ جراحاتي التي لا تزال طرية حتى بعد غياب طويل؟ لا توجد جماهير غفيرة على طرفي الشارع لكي ترحب بعودتي. أسرعت بالهروب من العاصمة مستقلا القطار إلى مدينة «رانس» عساني أفتح صفحة جديدة بعدما اهترأت كل صفحاتي السابقة. فاغترب تتجدد! ولكن هل فعلت شيئا غير الاغتراب في حياتي، وبخاصة في السنوات الأخيرة؟ واللهِ لقد مللت من حمل حقائبي من مكان إلى آخر، من قطار إلى قطار، ومن بيت إلى بيت. أما آن لهذا المسافر أن يستريح، لهذا الفارس أن يترجل؟ قلت للعدو الافتراضي الذي يلاحقني كظلي مثل نيتشه: يخيل إليَّ أن الفتيات هنا أحلى من باريس. فأجاب: مفهوم، مفهوم.. يبدو أن روحك الخبيثة لا تزال مخضوضرة ومعنوياتك مرتفعة رغم الفعس والدعس. ولكن انتظر.. قريبا سوف نهتم بك عن جد. والله سنحذفك من على وجه الخريطة.
أول شيء فعلته هو التسكع في شوارع المدينة إلى ما لا نهاية. التعرف على مدينة جديدة يشبه التعرف على امرأة جديدة: في كلتا الحالتين لذة الاكتشاف ومتعة المفاجآت. قالت لي إحداهن: يا إلهي ما أحلى حياتك يا دكتور: كلها مغامرات! لا قرار ولا استقرار. كلها هروب إلى الأمام، لا ملل ولا ضجر. قلت لها: أرجوك اسكتي! هذا ليس وقت المغازلات كما قال نابليون لجوزيفين عندما حسم الأمر في ليلة ليلاء وسطا على عرش فرنسا. «اليوم خمر وغدا أمر» كما قال امرؤ القيس في مناسبة أخرى. انفجرت بنوبة عصبية حادة: يا إلهي! تقارن نفسك بنابليون وأنت أكثر جبنا من الأرنب! اخجل على حالك، هاشم اخجل! رحم الله من قال: الذين استحيوا ماتوا.
وفجأة يجيء الصوت الرهيب من وراء الستار: هل تعتقد أنك نجوت؟ هل تعتقد أنك أصبحت خارج دائرة الخطر؟ هيهات، ثم هيهات! يدنا طويلة. والله سنمسح بك الأرض مسحا. والله سنأخذك بتلابيبك أخذ عزيز مقتدر بحول الله. نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع. كل مشكلات المنطقة سوف تصفى على ظهرك: من الصراع السوري - السوري إلى الصراع العربي - الإسرائيلي، وربما حتى الصراعات الأفريقية والآسيوية والأسترالية. ومهما اختبأت وتهربت، مهما ناورت وراوغت، فسوف نصل إليك. لقد «وقعت الفاس بالراس»، ولا مخرج لك ولا مناص. مهما حاولت أن تتحاشى الحفرة فستقع فيها. وكما قال الشاعر:
ولكن إذا حم القضاء على امرئ
فليس له بر يقيه ولا بحر
لا أعرف كيف تجادلت معها في أحد المخازن فإذا بها تصرخ بشكل هستيري: اخرج فورا! عد إلى بلادك الأصلية في أدغال أفريقيا واقفز على الشجرة مثل القرد. مكانك ليس هنا! أنت لا تستحق العيش في بلاد حضارية كفرنسا. لم أنبس بكلمة واحدة. بلعت الإهانة بكل رحابة صدر وخرجت متسللا لا أكاد أرى أمامي. أنا لست مجنونا لكي أفتح عليَّ كل الجبهات دفعة واحدة كنابليون!
لكن بعد هذه المقدمات الترفيهية والهلوسات الجنونية لندخل في صلب الموضوع. ما إن حققت الحد الأدنى من الاستقرار حتى كان هاجسي الأول هو المرور على المكتبات لكي أعرف ماذا حصل في غيابي، ماذا ظهر وماذا لم يظهر. ولم يخب ظني. عناوين كثيرة تستحق الاهتمام أولها كتاب لوك فيري عن «أجمل قصة لتاريخ الفلسفة».كنت قد سمعت عنه وأنا في المغرب ولكن لم يتح لي التمتع برؤياه إلا هنا. لهذا السبب أجيء إلى فرنسا من حين لآخر. لا أستطيع الانقطاع عن المكتبات العالمية. لوك فيري من أفضل الشارحين المبسّطين للنظريات الفلسفية التي تعاقبت على البشرية منذ أقدم العصور وحتى اليوم. يضاف إلى ذلك أنه هو نفسه فيلسوف حقيقي. لا أعرف ما إذا كانت المكتبة العربية قد ترجمت أعماله أم لا؟ لن أدخل في تفاصيله الآن، وإنما سأكرس له مقالة أو عدة مقالات لاحقا. مقالة واحدة لا تكفي لعرض كتاب كبير يحاذي الخمسمائة صفحة. إنها رحلة ممتعة عبر العصور، إنها ملحمة الفلسفة والفلاسفة.
بالطبع، لا يزال الإسلام والمسلمون الشغل الشاغل لفرنسا والغرب كله. ولكي يطلع المرء على هلوساتهم ومخاوفهم منا يمكن أن يقرأ الكتاب التالي: «ثورة تحصل تحت أنظارنا: كيف سيغير الإسلام وجه فرنسا وأوروبا كلها». المؤلف صحافي خريج جامعة هارفارد ومختص بالشؤون الأوروبية. وقد قدمت له الباحثة ميشيل تريبالا المختصة بعلم السكان وشؤون الهجرة والمهاجرين. خلاصة الأطروحة هي أن الهجرات الإسلامية المتعاقبة منذ خمسين سنة ستحدث تحولات اجتماعية ودينية وسياسية هائلة في القارة العجوز. إنها تشكل ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة ولكن لا أحد ينتبه إليها. فالنخب الأوروبية مشغولة بأشياء أخرى. أما السيدة تريبالا فترى أن علاقة الأجيال المسلمة الشابة بدينها معاكسة لعلاقة السكان الأصليين بدينهم هذا إذا كان قد بقي لهم دين! وترى أن الأصوليين يضغطون على الشعب الفرنسي وأصبحوا يهددون حرية الفكر والتعبير التي كنا نعتقد أنها راسخة لا مرجوع عنها. وهؤلاء المتشددون يهددون كل من يفكر بالدراسة التاريخية - النقدية للدين، سواء أكان مسلما أم غير مسلم. ربما كان في كلامها شيء من الصحة، ولكنه مبالغ فيه. فالمسلمون هنا لا يستطيعون أن يهددوا أحدا، بل هم المهددون الخائفون. ولذلك لا ينبغي عكس الحقائق. يضاف إلى ذلك أن المسلمين والمغاربيين الشرفاء على وجه الخصوص، هم حظ لفرنسا مثلما أن فرنسا هي حظ لهم. وبالتالي، فقد آن الأوان لكي نخرج من أطروحة صدام الحضارات السيئة الذكر. المستقبل هو للتفاعل الإيجابي البناء بين «كلتا الضفتين»، كما قال شيخ الاستشراق الفرنسي جاك بيرك.