في 1982، ألقى المرحوم غازي القصيبي، قصيدة في وضع حجر الأساس لجسر الملك فهد بين السعودية والبحرين، أبدع فيها في استحضار رمزية الصحراء والبحر حين يجتمعان... ناسجاً بينهما أواصر القربى والنسب، في قصيدة اسمها «دربٌ من العشق»، ومطلعها:
دربٌ من العشقِ لا دربٌ من الحجرِ
هذا الذي طار بالواحاتِ للجزر
ساق الخيام إلى الشطآن فانزلقت
عبر المياه شراعٌ أبيض الخَفَر
ماذا أرى؟ زورقٌ في الماء مندفعٌ
أم أنه جملٌ ما مل من سفر؟
وفيها يقول:
بَدْوٌ وَبَحارَة... مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا
وَالْبَر وَالْبَحْرُ يَنْسَابَانِ مِنْ مُضَرِ؟
خليج! إِن حِبَالَ اللهِ تَرْبِطُنَا
فَهَلْ يُفَرقُنَا خَيْطٌ مِنَ الْبَشَرِ؟
استحضرتُ هذه القصيدة، والخليج يتوهج هذه الأيام في مطلع الربيع بقناديل الثقافة والفن والإبداع التي تناثرت كحبات اللؤلؤ على صدره؛ من الواجهة البحرية التي تمتد من مدينة الخبر الملاصقة لجسر العبور نحو البحرين، نحو شواطئ الدمام العاصمة الإدارية للمنطقة الشرقية، وصولاً للقطيف ذات العمق الثقافي والحضاري. في أمسيات حافلة بالندوات الأدبية والشعرية والعروض المسرحية والسينمائية والفنون البصرية موسيقية وتراثية وتشكيلية، وعروض الطهي والفلكلور، وعروض الكتب، ولقاءات مع الكتاب والمؤلفين والمسرحيين، مع مساحة واسعة لشباب «البودكاست»، وحضور بارز للمرأة في المشاركة والتنظيم وإدارة الفعاليات.
الفترة الممتدة من 23 فبراير (شباط) الحالي حتى 11 مارس (آذار) المقبل، فترة حافلة بالثقافة والفنون، وتبلغ ذروتها خلال تنظيم معرض الكتاب الدولي في «إكسبو الظهران»، الأسبوع المقبل، وهو المعرض الذي ينتظره جمهور واسع متعطش للثقافة وللكتاب، وطالما قطع الفيافي كل عام نحو معرض الرياض، أو معارض الكتب في البحرين والشارقة وأبوظبي.
يمكن القول، إن حضور النخب الثقافية والفنية من أدباء وشعراء ونقاد ومسرحيين وروائيين وسينمائيين سعوديين وعرب في هذه الفعاليات يمثل عنصراً فريداً وثرياً. ليس قليلاً أن يلتقي الشباب برواد العمل الإبداعي، فالحوارات التي تقام في الهواء الطلق في مسارح مكشوفة تمكن الحضور من الاستفادة من التجربة الأدبية لعشرات الكتاب الذين يشاركون في هذه الفعاليات، هذه ميزة نادرة فعلاً، لا تتوفر كثيراً أن تلتقي بروائي مثل عبده خال، أو أشرف عشماوي، لكي يحدثاك عن تجربتهما الأدبية... عن طقوس الكتابة، وعوالمها، ومعاناتها، وليس قليلاً أن تجد أمامك «بودكاستر» عظيماً وملهماً مثل خالد اليحيا لكي يشرع في الحديث عن اختياراته المذهلة لموضوعات حلقاته الثقافية عبر «البودكاست»... فضلاً عن الشباب الذين تحتضن مواهبهم الصوتية منصة «سحابة أدب» لإعادة نشر المحتوى الصوتي مع توفير استديوهات للتسجيل والبث، وهي إحدى مبادرات «هيئة الترجمة والنشر»، وتخدم عدداً من «البودكاست» الثقافي بينهم: بودكاست «كتبيولوجي» لحسين إسماعيل، ويُعنى بتقديم محتوى ثقافي رصين عبر تقديم قراءة في أحدث إصدارات الكتب العالمية، وبودكاست «محتوايز»، و«تحدث العربية» و«مايكس» و«ساندوتش». يمكن أيضاً أن تخوض نقاشاً مع نقاد أمثال سعيد السريحي، وسعد البازعي، ومحمد العباس، وسماهر الضامن، وحسن النعمي، ومع أدباء مثل لمياء باعشن، وأميمة الخميس، وحسين علي حسين، ومع شعراء أمثال: أحمد الملا، وغسان الخنيزي، ومحمد الحرز، والعشرات من المثقفين والفنانين الذين ينثرون الإبداع على شواطئ الخليج.
هذا الزخم الكبير الذي تنظمه هيئة النشر والترجمة في وزارة الثقافة لا يخلو من عمق ثقافي ومعرفي، يمكن أن نقول إنه يعودنا على تطبيع عاداتنا بنسق ثقافي رفيع، لكن أهم ما يتضمنه أنه يجعل الثقافة تأتي للناس وتنساب في حياتهم... تعودهم على الإبداع والذوق الرفيع، مثلما تعودهم على الحوار والنقاش والنقد ورفع الذائقة الأدبية والفنية. هكذا يصبح البحرُ فيلسوفاً...!
TT
هكذا يصبح البحرُ فيلسوفاً...!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة