في ظل التوتر الذي يشهده العالم تقاس قوة الدول العظمى العسكرية والاقتصادية بالعديد من المؤشرات وترصد الجهات المختصة التقارير والمقارنات بين الجيوش، وخاصة الجيشين الأميركي والروسي؛ حيث يحتل الجيش الأميركي المرتبة الأولى عالمياً بينما يحتل نظيره الروسي المرتبة الثانية بين أقوى جيوش العالم، ويمتلك الجيشان قوات جوية ضاربة، وترسانة نووية فتاكة، ويقال إن كل نمو للدول التي تخطو خطوة كبيرة نحو صناعة الحروب وتضع العراقيل وتثير الريبة بخصوص السلام، يرافقه التفتت والاضمحلال وتزدهر أشكال التشاؤم في العالم.
الأمر الذي يرومه الواقع السياسي اليوم ليس السلطة بكل تأكيد، بل القوة العسكرية التي تعتبر أكبر من السلطة، فالقوة أصل التحكم في النتائج ومغالبة الظروف، مستبعدة مقارعة الفكر بالفكر والحجة بالحجة للحد من خطورة تنحو نحو تصحيح مسارها الذي يتطلب بالفعل إدارة القوة تحت ضغط يريد بلوغ هدفه. إذ لا ينبغي أن نخطئ في فهم معنى العنوان الذي يريد أن يتخذ لنفسه صيغة منطقية ونفسية للمستقبل، فما الذي تحمله المؤشرات والمقاييس التقليدية للقوة الاقتصادية والعسكرية؟ فهناك تلك الفوضى التي نجمت عن صعود الدهماء، يعني صعود القيم القديمة مرة أخرى المتميزة بشدة صلابتها وقسوتها؛ حيث يتوطد العنف والحرب والنتائج المتشابكة والعراقيل الكبيرة والجمود في مستوى الإنسانية، فالمواجهة اليوم لا تقتصر على الغرب وروسيا وساحات الحرب في أوكرانيا فحسب، بل ما يدور في الخفاء أشد وأعظم، يقع عليه تأثير ضخم من المنافسة الطويلة الأمد بين القوى العظمى.
حين لا يكون الدافع هدفا محددا يتم بلوغه من دون خسائر اقتصادية وحروب لا تنتهي، فالقوة العسكرية من أدوات القوة الصلبة أو الخشنة التي تلجأ إليها الدول لتنفيذ أهداف سياستها الخارجية، وخاصة في إدارة الصراعات والأزمات الخارجية، والأمر الأساسي الوحيد الذي بدا واضحاً خلال حقبة الحرب الباردة، هو سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، وبهذا نقر أن القوة العسكرية في الوقت الراهن أهم أدوات تنفيذ السياسة الخارجية للقوى الكبرى والإقليمية في العالم، ترافقها القوة الاقتصادية.
وبذلك تتكون نتائج ضرورية تنتج عن النماء الحيوي وازدهار الحياة وتقدمها، فكل دولة كبرى تستعرض ما تملك وتضخم الأحداث حتى تتخذ شكلا مهولا، وروسيا تؤكد أنها تمتلك احتياطيات من الغاز تكفيها لعقود عديدة، ويتم تحقيق ذلك من خلال قاعدة موارد هي الكبرى في العالم. وقال رئيس «غازبروم» الروسية: «يمكن للمستهلكين أن يكونوا على ثقة في أن احتياطيات الغاز في روسيا ستكفي لسنوات طويلة، وأساس ذلك هو قاعدة الموارد الضخمة الكبرى في العالم».
من هنا، بدأت القوة الاقتصادية تشكل السبب الحقيقي لكل النزاعات والصراعات لتعطيها قيمة لكل القوى والمقاصد، فالصين على سبيل المثال مرشحة للعودة بوصفها قوة عالمية كما كانت قبل قرون، وربما تكون المنافس الأكبر والأهم بالنسبة للولايات المتحدة، فالنمو الاقتصادي المتسارع الذي تحققه منذ ربع قرن سيجعلها القوة الاقتصادية الأولى في العالم، وعدد سكانها وقوتها العسكرية يرشحانها لموقع قيادي في العالم، وخاصة بعدما حققت الصين مكاسب أمنية لخططها الاقتصادية مع روسيا لردع التهديدات المتوقعة من الخلل الأمني في ساحة الصراع بين الناتو وروسيا، فالتاريخ يعيد للعالم عجز القوة وهيمنتها ونفاقها ومكرها، وكثير يعمل من أجل التوازن رغم الأضرار والتضحيات التي لحقت به، فعلاقات الصين الاستراتيجية تتعدى أبعادها الأهداف الاقتصادية، وتصب اهتمامها في المجالات الجيوسياسية لخدمة مصالحها في مناطق الشرق الأوسط وأوراسيا والمحيط الهندي، فهل وصلت علاقات واشنطن وبكين إلى مستوى متدنٍ بعد إسقاط منطاد تجسس صيني فوق الأراضي الأميركية، وهل الدولتان على شفا صراع وحرب عسكرية قريبة؟
حلمنا بزوال الحروب والتناقض بين الدول العظمى في المستقبل، أو بالتوفيق المستمر بينها، ولكن للأسف ستبقى القوى متنافرة ولا يمكن تعويضها، فروسيا تعسكر القطب الشمالي وتقاتل الغرب، وأميركا لا تتوقف عن المناورات العسكرية وتؤسس كل العلاقات السياسية والاقتصادية بمقابل تتم الاستفادة منه، والصين دافعة بكل قوتها إلى الحزام والطريق لعددٍ من الدول المشاطئة لهذا القطب ولجميع القارات، والأمر هنا ذو قيمة كبيرة تخلو شروطه الأولية من النبل.
TT
العالم بحاجة لإدارة القوة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة