طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

الوجدان... ليست له قطع غيار

أستمع لملخص

هل من الممكن أن يتدخل الذكاء الاصطناعي في الإبداع الفني، حيث إن كثيراً ما يؤكدون مثلاً أننا لم نعد بحاجة إلى كتّاب يملأون الصحف بمقالات، من الممكن - بكبسة ذر - أن تطلب من جهاز الكومبيوتر أن ينتحل شخصية الكاتب الكبير، وتزوده بعدد من مقالاته القديمة، ليلتقط مفرداته، وتطلب منه مثلاً أن يكتب مقالاً عما يجري الآن في فلسطين ولبنان، ويجيبك أيضاً عن سؤال المشهد الأخير للحل في بداية ولاية ترمب؟ وقبل أن تكمل الجملة، سوف يأتي إليك المقال عليه توقيعك.

شاهدت حواراً قبل نحو 45 عاماً، بين الموسيقار محمد الموجي والإعلامي طارق حبيب، حيث طلب طارق من الموجي أن يقدم لحنه الشهير الذي غناه عبد الحليم منتصف الخمسينات «يا قلبي خبي»، بصوته على العود، بعد ذلك يتخيّل أن هذا اللحن، لو قدم بإيقاع غربي كيف يكون الحال، وماذا لو أعطيت هذه الكلمات مثلاً للملحن الكلاسيكي الشيخ زكريا أحمد كيف يتم أداؤه؟

وهو ما سبق أن قدمه قبل نحو 70 عاماً الملحن الموهوب منير مراد، حيث تخيل رائعة عبد الوهاب «لأ مش أنا اللي أبكي» بتلحين فريد الأطرش ومحمد فوزي وكمال الطويل، وبالفعل قدم كل من الموجي ومنير ألحاناً تشبه روح هؤلاء الكبار، استعادوا من مخزونهم القديم، مفرداتهم.

استمعنا مؤخراً إلى صوت يشبه أم كلثوم، وكلمات تحاكي أشعار أحمد رامي، وموسيقى تنتحل صفة ملحن أم كلثوم الأثير رياض السنباطي، تكتشف أن كل ما يتردد في أسماعنا تنطبق عليه أداة التشبيه «كأن».

فهو كما يبدو جيد الصنع كأنه الأصلي، إلا أنه ليس أصلياً، يظل في المعادلة شيء ناقص، اسمه الوجدان، لا يمكن انتحاله... نعم قدمت سيمفونيات جديدة لعدد من كبار الموسيقيين الراحلين، اتكأ عمقها الإبداعي على أرشيف كل منهم لاستعادة روحهم، وهو ما ينطبق مثلاً على كل الكبار في كل المجالات، حيث من الممكن مثلاً أن تقرأ الآن قصيدة بالفصحى منسوبة لنزار قباني، وأخرى بالعامية المصرية عليها توقيع «الفاجومي» أحمد فؤاد نجم.

حتى في حياتهما، بين الحين والآخر، كنا نجد أعمالاً ممهورة باسميهما، وهما آخر من يعلم.

الشخصيات الفنية التي لها ملامح صارخة، تملك جاذبية للتقليد، والمحاكاة، ولهذا كان الشاعران الكبيران، ولا يزالان بعد الرحيل، هدفاً للتقليد.

هل نخشى الزمن ونرفض كل ما يقدمه لنا؟ قطعاً لا، من يخاصم الزمن يجد نفسه خارج رقعة الحياة، إلا أن الآلة لا يمكن أن تصبح بديلاً لنا، في كل تفاصيل الحياة، وتحديداً الإبداع.

في الماضي مثلاً كانت الفرقة الموسيقية تسجل اللحن كاملاً في الاستوديو مع المطرب، قبل نحو 40 عاماً، بات من الممكن أن تسجل الآلات الموسيقية منفردة، ثم يتم مزج صوت المطرب بعدها.

ربما كانت أغنية «من غير ليه»، آخر ما غنى الموسيقار محمد عبد الوهاب بصوته هي أشهرها.

تم انتزاعها من بروفة قديمة، أجراها عبد الوهاب بصوته أثناء تحفيظه اللحن لعبد الحليم، قبل رحيل العندليب ببضعة أشهر، وبرغم أن تلك الحيلة تمت بأسلوب بدائي، فإن الكثيرين وقتها عام 1989 اعتقدوا أنه صوت عبد الوهاب وليس قبل نحو 14 عاماً.

لو تصورنا أن الآلة انتحلت صوت وموسيقى عبد الوهاب في أغنية حديثة وتم تداولها، مؤكد سنكتشف «كأنه عبد الوهاب»، تنقصه لمحة خاصة اسمها «الوجدان»، ومن المستحيل أن تستنسخه، أو تعثر له على قطع غيار.