خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

عجلة الفائدة والمتعة

استمع إلى المقالة

لازمتني عادة استخدام الدراجة طوال حياتي. ليس السبب في ذلك فوائدها المزاجية والصحية، بل ارتباطها مع نشاطات أخرى تضيف إليها متعاً متجددة. أبسطها العثور على معالم متوارية، أو كافيهات مميزة، أو اكتشاف طرق جديدة. والأخيرة بالذات لها معي قصة. إذ أعاني فقراً في الخيال الهندسي، ولا سيما ما يتعلَّق بالهندسة الفراغية، ويصعب على عقلي استيعاب المستويات المتعددة. تخيل الطرق معضلة لا أتجاوزها بالتفكير النظري، بل بالمحاولة والخطأ والجهد الشاق. فإن عثرت على طريق جديد أسعدُ كأن العالم كله يصفق لي. كما أعزي نفسي بأن المجهود الذهني الذي أبذله لتعويض فقر خيالي لم يذهب هباء، فقد حصنت نفسي من لعنة الهندسة المدنية بقواعد أفادتني في مجالات أخرى.

القاعدة الأولى: أن المفارق المتقاربة في البدايات تؤول إلى فوارق شاسعة بعد فترة زمنية قصيرة.

الأفكار أيضاً. تلك التي تختلف قليلاً في البدايات تؤول إلى فروق ضخمة. الجماعات المتطرفة استخدمت هذه الحقيقة في التعامل مع حسني النية من حولهم. يفرضون تغييرات بسيطة في السلوك، يقولون لك يا أخي ألا تترك هذا الشيء البسيط لله؟ أوقف هذا الحفل. امنع هذه الرحلة. قل هذا وتوقف عن قول ذاك. وبعد فترة يجد المجتمع نفسه في بيئة مقفرة، تختلف تماماً عما نراه في العالم.

لكنَّ هناك مقابلاً إيجابياً منطلقاً من القاعدة نفسها. تغييرات مفيدة بسيطة في عاداتك وأفكارك، ستتراكم أيضاً وتأخذك إلى مناطق أفضل كثيراً في حياتك.

القاعدة الثانية: أنَّك لن تلاحظ الانحراف في الطريق، وأنت منغمس فيه. تقود الدراجة ونظرك إلى الأمام، تحيط بك جدران وبنايات، حتى تتبع مسار نهر. ستظن أنك تسير مستقيماً، أو موازياً لطريق تعرفه. أبداً. الشوارع والأنهار تنحرف وتنحني درجة درجة، ولن تلحظ ذلك إلا إن نظرت إليها من أعلى بعين طائر، كأنك تنظر إلى خريطة.

في أفكارنا الاجتماعية أيضاً لن تلاحظ الانحراف وأنت محاط بشلة وفي وسط تنظيم، أو تعيش في مجتمع يسكن نفس الروايات. لا بد أن تنظر إليه من الخارج. لا بد أن تختبر أفكارك من خارج جدران الصدى.

القاعدة الثالثة: حين يستعصي عليّ فهم مداخل ومخارج منطقة بعينها أترجل عن الدراجة وأسير على قدمي. الإبطاء يمكنني من ملاحظة المعالم بشكل أفضل، ومعايشتها لمدة أطول، ويتيح لي التوقف هنا وهناك لكي أرى شكل الشارع، وطبيعة التقاطعات، وأنظر إليه بدورة كاملة من 360 درجة. باختصار، يمكنني من تفكيك الأسلاك المتداخلة إلى وحدات أبسط.

في حياتنا العادية نحتاج أيضاً إلى التراجع درجة من حين إلى آخر. إن كنت مديراً مارس عمل الموظفين، إن كنت متعثراً في موضوع معقد اقرأ كتب المبتدئين. سيساعدك هذا على إعادة ضبط الزوايا، وعلى ملاحظة ما تاه عنك من مفاصل.

القاعدة الرابعة: الأنماط مفيدة وخادعة. في لندن مثلاً أنتبه إلى شيئين بشكل أساسي، خطوط القطار وشبكات القنوات المائية. هذه توائم متطابقة. تتقاطع خطوط القطار ثم تتباعد، وتتلاقى قنوات المياه وتتباعد. لكن تبقى قضبان الحديد كما هي، والماء كما هو. لو لم ترَ نقطة التقاطع لأي سبب فقد تتبع خطاً منحرفاً على أنه امتداد للخط السابق. تذكر هنا أن الهندسة المدنية هندسة فراغية أيضاً. أحياناً تمشي في طريق متسع فلا تنتبه أنه في الحقيقة جسر، وأن تحته طريقاً آخر حدثت فيه التقاطعات والتبدلات دون أن تدري أو تلاحظ. لن ترى الصورة على حقيقتها إلا إن اخترت نقطة معاينة صحيحة، تكشف لك ما لم يكن منظوراً.

في حياتنا شبيه بذلك. قد تتلاقى الأفكار في نقطة. لكن هذا لا يعني أنها تنتمي إلى نفس الطريق، فضلاً عن نفس المستوى. حتى الساعة المعطلة تتقاطع مع التوقيت الصحيح مرتين يومياً. ربما تكون إحدى الفكرتين في طريقها إلى الشمال، والأخرى في طريقها إلى الجنوب. ربما يكون التقاطع خدعة بصرية، لأن المستويين مختلفان وبينهما فراغ كبير.

يبقى الدرس الأجمل من كل ما سبق، أن التوهان لا ينبغي أن يزعجنا في حد ذاته. إن لم تكن مرتبطاً بموعد أو دخلت منطقة خطرة على سلامتك. التوهان في كثير من الأحيان إيجابي وضروري. يحملك إلى وجهات غير متوقعة وتجارب جديدة. به وصل كريستوفر كولمبوس إلى الأميركتين. وبه تنفتح في حياتنا فرص أفضل في الحياة الشخصية والمهنية. في أوقات الحيرة والقلق أتذكر هذا الدرس أكثر من غيره.