لا أحد بوسعه أن يتنبأ بنهاية أزمة أوكرانيا، لأن جميع الأطراف ليس لديها حل؛ فالرئيس الأوكراني لم يعد يقبل بحلول كانت مطروحة قبل الاجتياح، والرئيس الروسي لا يستطيع أن يقبل بتسوية تجعله يخسر ما حصل عليه في أوكرانيا بالقوة؛ ما نشهده باعتراف الجميع انسداد سياسي وركون للخيار العسكري. فالروس استوعبوا نكستهم الأولى، وغيروا تكتيكهم العسكري، وبدأوا يتقدمون في الدونباس، ويستعدون لشن حرب واسعة في الربيع المقبل. مقابل الاستعداد الروسي يسلح الغرب الجيش الأوكراني بالدبابات والمدفعية والصواريخ بعيدة المدى، وقريباً طائرات أميركية متقدمة من نوع «إف 16»؛ هذه الأسلحة الأميركية طُورت لمواجهة الأسلحة الروسية التي تفوقت عليها في حرب 6 أكتوبر (تشرين الأول) لعام 1973، ونجح رهانهم في حرب أوكرانيا؛ ولا يحتاج المراقب لذكاء لمعرفة أن القادم سيكون خطيراً، لأن الرئيس بوتين، بعد تسليح حلف الناتو الجيش الأوكراني بدبابات وصواريخ يصل مداها لمائة وخمسين ميلاً، قال «لا نُصدق ما نراه، لأننا مرة أخرى نُهدد بدبابات ألمانية من نوع (ليبورد)»؛ لذلك وصف حربه في أوكرانيا بأنها تُعادل حرب الروس ضد ألمانيا النازية، وأضاف أن «مَن يعتقد أنه قادر على هزيمتنا على أرض المعركة لا يفهم أن الحرب الآن مختلفة، ولن تكون محصورة بأسلحة تقليدية، وسنذهب أبعد من ذلك»؛ هذا معناه أن بوتين أمام خيار الهزيمة أو استخدام السلاح النووي لن يتردد باستخدام النووي لإنقاذ روسيا.
بالمقابل يتجذر الإجماع الغربي على شيطنة بوتين، وضرورة هزيمته عسكرياً على أرض أوكرانيا، بعدما تبين ضعف قواته وعدم فاعلية أسلحته؛ الشيطنة عبر عنها رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، مؤخراً، بقوله إن بوتين هدده شخصياً قائلاً له: «بوسعي أن أقتلك بصاروخ يا جونسون». ورغم نفي الكرملين صدور تهديد منه، دعا جونسون الغرب إلى عدم الرضوخ إلى تهديدات بوتين، مراهناً على أنه لن يستخدم السلاح النووي، لأن الصين ستعارضه، وكذلك الهند والعالم، ومؤكداً أنه حتى ولو استخدم السلاح النووي التكتيكي لن ينتصر، لأن الأوكرانيين سيقاتلون وينتصرون. وفي برنامج توثيقي لـ«بي بي سي» عن حرب أوكرانيا، أكد ساسة الغرب أن بوتين لا يمكن الوثوق به، وأنه يؤمن فقط بالقوة، وأنه بالممارسة يرضخ عندما يُجابه بالقوة؛ هذه الرؤية الغربية، ومقابلها الرؤية الروسية، بمنتهى الخطورة، لأنها ستقود حتماً إلى صراع طاحن، لا أحد واثق فيه بأن بوتين لن يستخدم السلاح (النووي).
إن أهم شيء في السياسة أو الحرب هي القدرة على التنبؤ بما يفكر به الخصم، لأن ذلك سيوفر النصر بأقل التكاليف، وعليه يتوقع الغرب أن بوتين سيشن عملية عسكرية كبيرة في الربيع المقبل يسيطر فيها كلياً على المقاطعات الأوكرانية التي ضمها إلى روسيا، ويبعد القوات الأوكرانية عنها، ثم يوقف زحفه، ويبدأ بتعزيز دفاعاته، بانتظار تسوية يمكنه فيها أن يفاوض من موقع القوة. بالمقابل يستعد الغرب لإفشال هذا الاحتمال العسكري بتسليح الجيش الأوكراني، وتمكين القوات الأوكرانية من طرد الجيش الروسي من المقاطعات المحتلة، والتهديد بطرده من جزيرة القرم. وفق هذا السيناريو، فإن بوتين حشد، حسب تقارير غربية، ما يقارب نصف مليون جندي لهذه المعركة، ودفع حتى الآن حوالي ثلاثمائة ألف جندي إلى أوكرانيا، أي ضعف العدد الذي شن به الحرب في 24 فبراير (شباط) الماضي؛ كما أن اقتصاده تحول إلى اقتصاد حرب، وبدأت مصانعه العمل على قدم وساق لتوفير الأسلحة والذخائر لهذه المهمة؛ لذلك صعد الغرب رده وأرسل الأسلحة الثقيلة، بالذات الدبابات الألمانية، لأنها منتشرة في حلف الناتو، ويمكن بسهولة صيانتها وتوفير قطع الغيار لها، وإرسال المزيد منها إلى أرض المعركة عند الحاجة؛ فبوتين يدرك وكذلك الناتو أن توفير خطوط الإمداد هو أهم عامل حاسم في المعركة، وهذا ما دفع بوتين ثمنه غالياً عندما وصل جيشه إلى العاصمة كييف، واضطر أن يترك دباباته خلفه ويتراجع، في مشهد مأساوي، باتجاه أماكن انطلاقه بسبب توقف شريان خط الإمداد العسكري.
إن ما نشهده حرب وجودية، ولم نعد نسمع الآن فيها أصوات الواقعيين السياسيين الداعين إلى إعطاء بوتين بعض مطالبه لطمأنته، بل أصبحنا نسمع خلاف ذلك ومنهم كبيرُ الواقعيين كيسنجر الذي قال مؤخراً في مؤتمر دافوس: يمكن الآن قبول أوكرانيا في حلف الناتو، لأن الظروف تغيرت عما كانت عليه قبل اجتياح 24 فبراير؛ ونسمع كذلك مطالبات بتسريع انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي، ونرى حملات قوية ضد من يحاول المساومة أو حتى التعقل مع بوتين، ولعل الحملة على المستشار الألماني وإجباره على إرسال الدبابات خير دليل؛ كل المؤشرات تقود الآن إلى الاعتقاد بأن التسوية السلمية غائبة، وأن الدبلوماسية شبه متوقفة، وأن الحراك كله يصب في خانة الاستعداد للمعركة المقبلة، لكونها معركة يتوقف عليها رسم مشهد دولي آخر، ومختلف تماماً، وفي هذه المعركة بالذات يعرف الجميع ما يريدون، ويعرفون أيضاً صعوبة تحقيق أهدافهم، ومع ذلك يخاطرون انطلاقاً من تنبؤات قد تصيب أو لا تصيب. ولعل الأخطر في هذه التنبؤات الاعتقاد أن بوتين لن يستخدم السلاح النووي، ولكن لا أحد يسأل ماذا لو استخدمه؟ أو يسأل لماذا يكدسه ويطوره، إن لم يكن ليستخدمه في معركة وجودية! كما لا أحد يسأل: هل ستسمح الصين لروسيا بأن تنهزم، وهي تدرك أنها مستهدفة، وأن بوتين عول عليها في معاهدة وقعها مع رئيس الصين قبل الاجتياح وعنوانها «تعاوننا لا حدود له سوى السماء». ولا أحد يسأل ما هي التداعيات الاقتصادية على العالم؟
إنه واقع صعب، وخيارات الأطراف أصعب لأنهم يفكرون بعقلية صفرية، وما نراه، للأسف، ليس إلا قمة جبل الجليد، وما تحته أدهى وأعظم.
8:32 دقيقه
TT
الخيارات الصعبة في أوكرانيا: المخفي منها أعظم وأدهى
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة