ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

«الإنسان السوفياتي»

نالت سفتلينا آلكسيفيتش جائزة نوبل كصحافية، وكانت أول كاتبة تحصل على هذه التكريم عن أعمالها الأدبية التي تمارس فيها مهنة الصحافة بشكل أساسي. وكنت قد أبديت منذ فترة ملاحظاتي على كتابها النموذجي حول تشيرنوبل، واليوم أريد أن أتناول التحقيق الرائع الذي نشرته مؤخراً في كتاب تحت عنوان «نهاية الإنسان السوفياتي»، الذي يقع في حوالي سبعمائة صفحة، ويتضمن مقابلات أجرتها مع شخصيات مختلفة تصف من خلالها الاتحاد السوفياتي على عهد ستالين، والمراحل التي تلته وشهدت انقسامات عميقة، خصوصاً بعد الانتقادات التي صدرت عن غورباتشيف حول ما حصل إبان حكم ستالين ولينين، وبعد أن دعا يلتسين إلى اتباع نهج أقرب إلى بدايات الثورة.
ولرسم صورة دقيقة عن الاتحاد السوفياتي، لجأت آلكسيفيتش إلى محاورة مئات الأشخاص، من مشارب وظروف مختلفة، في طول هذا البلد المترامي الأطراف وعرضه، وقدمت لنا صورة متباينة جداً حول ردود فعل السكان في هذه الأمة المعقدة التي كانت تدعى الاتحاد السوفياتي. ونرى في المشهد الذي تصوره لنا جنرالات ينتحرون لأنه يشعرون باستحالة الحياة من غير ستالين، ومواطنين أبرياء كانوا قد أمضوا عشرات السنين منفيين في الغولاغ قبل الإفراج عنهم بطريقة مدهشة وغامضة مثل الأسباب التي أدت إلى إدانتهم وإرسالهم إلى بطاح سيبيريا. وأقل ما يقال هو أن أحداً لا يتمنى تمضية فترة في هذا البلد الذي، بوحشية القيادات السوفياتية الأولى التي كانت بلا حدود، تمكن من دحر القوات النازية التي كان هتلر يسعى بواسطتها للقضاء عليه.
وتغطي هذه المقابلات مشهداً عريضاً من المجتمع الروسي، فيه قياديون ستالينيون فخورون بانتمائهم ورافضون أي محاولة لتحديث هذا المجتمع واعتناقه المبادئ الديمقراطية، وضباط في الجيش وطيارون تدرجوا عالياً في المجمع بفضل التربية الصارمة في هذا البلد الذي لم يكن يعترف بالملكية الخاصة، ولا مجال فيه لجمع ثروة فردية. اللافت أن أنصار ستالين لا يتذمرون من العقوبات القاسية التي كان النظام يفرضها في تلك الفترة على من يخرجون عن الصراط الاجتماعي القويم، بل من المؤشرات على أن ذلك المجتمع الصارم الذي رفع صرحه رواد الثورة، يتهاوى ويتحول إلى مجتمع فرداني يسود فيه المال على غرار النموذج الأميركي.
ويرسم الكتاب صورة مأساوية عندما ينأى عن المدن ويتوغل في الأرياف بين الفلاحين الذين لم يلتحقوا بالمدارس، ويعيشون على هامش مغريات الحياة، من لهو وترف ودوام وظيفي، تفصلهم المسافات الهائلة عن المدن وعيشها الرغيد، رغم أن كثيرين يفاخرون بجذورهم الريفية. ولا شك في أن النظام الذي فرضه لينين وستالين في هذا البلد الشديد التباين، كان لا إنسانياً بقدر ما كان الوحيد الممكن لتحقيق المساواة في المجتمع ضمن نظام عسكري، لولا أنه كان قائماً على مظالم صارخة، حيث إن أي هفوة، أو خطأ، أو مخالفة، يمكن أن تؤدي إلى إرسال مرتكبها سنوات طويلة إلى المنفى في سيبيريا. ولعل أكثر ما يحزن في هذا الكتاب هي أعداد الأطفال الذين يجولون بين صفحاته، يتضورون جوعاً، مسلوخين عن آبائهم، حيث كان التعليم الصارم الذي وضعه لينين وستالين يربي الملايين لخدمة الدولة بمعزل عن الأسرة والأصدقاء.
كتاب سفتلينا آلكسيفيتش يزرع الحيرة في ذهن القارئ، ويدفعه إلى مطارحة نفسه السؤال التالي: كيف يستقيم العيش في بلد يخطف الأطفال من آبائهم ويرسلهم إلى مدارس يتخرجون منها أطباء وباحثين وقيادات عسكرية، وتكلف المجتمع مبالغ طائلة، لكنها تتسبب في معاناة هائلة. لكن رغم ذلك، يدافع عنه كثيرون، ويتباهون بكونهم «ستالينيين»، ويكرهون النظام الحالي الذي يشكل المال محفزه الوحيد، وينقسم فيه المجتمع بين الذين يملكون كل شيء والذين لا شيء يملكون، أي بمعنى آخر العودة إلى بدايات المجتمع الذي سمي ثورياً من باب التوهم والخيال.
أعتقد أن الأسلوب الذي تعتمده آلكسيفيتش في كتابها منصف في عرضه لهذا المجتمع المعقد، الذي يتعرض باستمرار لأزمات كبرى تتجاوب معها فئات المواطنين بطرائق مختلفة: متحزبون متعصبون للفكر الستاليني إلى أبعد الحدود الممكنة، بما فيها خيانة الأبناء والأصدقاء، والقياديون الذين يستغلون نفوذهم لمساعدة المقربين وتهميش الخصوم. لكن ثمة تشدداً يسود هذا المجتمع عندما ترتقي فيه مستويات الحياة إلى أن يلحق الهزيمة ببلد أكثر اندماجاً وتجانساً مثل ألمانيا.
لا شك عندي في أن مستويات الحياة العالية التي حققها الاتحاد السوفياتي كانت ممكنة من غير تلك الصرامة التي كان مئات الآلاف من المواطنين الضعفاء والمهمشين ضحيتها الأولى، التي كانت تستفيد منها حفنة من المحظيين بفعل الصداقة أو الانتماء الآيديولوجي، وأحياناً أيضاً المصالح والمنافع المتبادلة. أما الضحايا الذين كانوا يعدون بمئات الآلاف في بعض المراحل، فقد أضروا بالنظام الجماعي الذي كان كثيرون يرفضونه بقوة، كما يتبين بوضوح في الكتاب.
لا أعتقد أن البلدان الأميركية اللاتينية والدول النامية التي توجد فيها فوارق اجتماعية كبيرة كتلك التي كانت موجودة في الاتحاد السوفياتي، يمكن أن تميل إلى اختيار نظام كالذي وضعه لينين وستالين، أقله بالنموذج الذي يعرضه لنا هذا الكتاب. وهو نموذج يقوم على العنف، ويفرط في اعتصار المجتمع ليرفع مستويات الحياة فيه إلى أن يقيم نظاماً يوفر مهنة أو وظيفة لكل مواطن وحيث لا يقضي أحد من الجوع. وفي ظني أن مواطني البلدان الأميركية اللاتينية والنامية يميلون إلى اختيار نظام أقل عنفاً وإجحافاً، يبقى فيه هامش الاختيار مفتوحاً، ولا يكون عدد الضحايا مرتفعاً كما هو في النظام الشيوعي. ولا شك في أنه لا بد من معالجة هذه الفوارق الاجتماعية الهائلة التي تعاني منها بلدان كثيرة في أميركا اللاتينية والعالم النامي، والحد منها قدر الإمكان، من غير التضحية بمئات الآلاف من المواطنين بهذا الأسلوب الممنهج والوحشي.
سفتلينا آلكسيفيتش وضعت كتاباً قيماً، في قراءته مرارة الوقوف على وقائع وأحداث فظيعة، لكن منفعته جمة للقراء في المدى الطويل.