كان العقيد القذافي صاحب مدرسة خطابية شهيرة وفريدة في آن، بل إنه أيضاً أضاف مسحة «كوميدية» ومقاربة هزلية إلى أحاديثه السياسية، جعلت لخطاباته نكهة مختلفة، وساعدت مستمعيها على احتمالها، رغم طولها وبؤسها الشديدين.
لكن الزعيم الكوبي فيديل كاسترو فاق الرؤساء جميعاً في تعلّقه بـ«الميكرفون»، ورغبته في مخاطبة الجماهير، وقدرته على استمرار التحدث لساعات طويلة دون كلل أو ملل، وبصرف النظر طبعاً عن حالة المستمعين، الذين كانت توقعهم الظروف تحت رحمته.
أما الزعيمان التاريخيان هتلر وموسوليني فقد كانا من مدرسة مختلفة، تعتبر الخطابة جزءاً حيوياً ورئيساً من قدرات الزعيم على الحشد والإلهام والتعبئة، بل والفعل السياسي. وبقدر ما أقام هذان الزعيمان للجماهير قصوراً من كلام رنان في الهواء، بقدر ما قادا هذه الجماهير إلى الانكسار والهزيمة المُذلة.
يُعرّف أرسطو الخطابة بأنها «قدرة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحد من الأمور»، فهي تشرح الحال، وتخلق التفهم والقبول، وتستنهض الهمم، لكنها لا تصطنع أحوالاً جديدة، ولا تغير الأوضاع بسحر الكلمات.
فالخطابة، أو الحديث إلى الجمهور، مجرد وسيلة إقناع يستخدمها القائد من أجل توصيل أفكاره، وتوضيح مقاصده، وشرح مواقفه، وتعزيز شعبيته، وتأمين الدعم اللازم لإنجاز السياسات.
لذلك، يجب أن يكون كلام القائد مستنداً إلى أفعال، مثبتاً أو قابلاً للإثبات، ويجب أن يكون مُقتصداً، وبليغاً موجزاً، ومحتشماً ومحسوباً بعناية.
واليوم، أصبح لدينا خطيب جديد من طراز فريد ونادر، هو رجل يتحدث فيسمع العالم، ثم ترسم كلماته مانشيتات الصحف، وتحتل الشاشات الرائجة في أفضل الأوقات، وتُدار بسببها حفلات من التعليقات والانتقادات والمشاحنات بين مستخدمي وسائل «التواصل الاجتماعي»، وهي حفلات تبدأ بمجرد نطقه بالكلمات، ولا تنتهي إلا عندما يطلق تصريحات جديدة.
في وقت سابق من الشهر الحالي، كشف البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب نطق منذ عودته إلى السلطة بما مجموعه 2.4 مليون كلمة في أحاديثه مع الصحافيين أو في حضورهم، أي ما يزيد على أربعة أضعاف الحجم النصي لرواية «الحرب والسلام» لتولستوي. الرقم، في ظاهره، طريف وصادم، لكنه في عمقه يكشف عن سلوك سياسي له جذور تاريخية ودلالات نفسية وثقافية تتجاوز حدود المفارقة الظاهرة.
لقد أعطى ترمب للاتصال الرئاسي أبعاداً جديدة؛ فإفراطه في الكلام لا يقتصر على الخطب أو المناسبات الكبرى، بل يمتد إلى الحياة اليومية للسلطة. هو يتحدث بلا انقطاع، وفي كل اتجاه، ومن دون وسطاء. المؤتمرات الصحافية، اللقاءات العابرة، التجمعات الجماهيرية، وحتى اللحظات البروتوكولية، تتحول في حضوره إلى مناسبات للكلام المطوّل، الارتجالي، المتشعب. لا يكتفي ترمب بأن يكون صوته مسموعاً، بل يصر على أن يكون الصوت الأعلى، والأكثر تكراراً، والأشد حضوراً في دورة الأخبار.
تفسيرات هذه الظاهرة لا تنفصل عن البنية النفسية للرجل. فترمب، حسب توصيفات عديدة، شخصية اندفاعية، عالية الانبساط، تستمد طاقتها من التفاعل المباشر ومن ردود الفعل الفورية. الصمت لديه ليس حياداً بل هزيمة، والاختفاء عن الشاشات نوع من التراجع الوجودي. الكلام، في هذا السياق، ليس وسيلة لنقل موقف سياسي فحسب، بل فعل تأكيد للذات، وتجديد دائم للإحساس بالأهمية. إنه يتحدث ليضمن حضوره المستمر، لا ليخبر أو يشرح فقط.
تتداخل هذه السمة مع نزعة واضحة إلى التمحور حول الذات. فترمب لا يرى الاتصال السياسي عمليةً تبادليةً، بل عرض أحادي الاتجاه، تكون فيه الجماهير متلقية، ووسائل الإعلام مجرد ناقل. لا يهم كثيراً اتساق الرسالة أو دقتها، بقدر ما يهم أن يكون هو مركزها. لذلك لا يتردد في الكلام من دون إعداد أو مراجعة، ولا يرى في الارتجال مخاطرةً، بل فضيلة تمنحه شعوراً بالتحكم والسيادة على اللحظة.
نقاد ومفكرون قرأوا هذه الحالة بوصفها إعادة صياغة جذرية لمنطق الاتصال السياسي. فبدل أن تكون الرسالة السياسية نتاج مؤسسات، ومستشارين، ونصوص مدروسة، أعاد ترمب تمركزها حول شخصه، محولاً ذاته إلى وسيلة الاتصال الأساسية. هو لا يختصر الرسالة، بل يطيلها عمداً، لأنه يدرك أن الطول ذاته يصبح حدثاً، وأن التكرار يخلق اعتياداً، ثم تطبيعاً، ثم هيمنة.
من هذا المنطلق، لا يبدو ترمب مجرد زعيم يحب الكلام، بل أنموذج لسياسي أعاد تعريف العلاقة بين السلطة وخطابها. لقد جعل من الثرثرة استراتيجية، ومن الإفراط أسلوب حكم، ومن الحضور الدائم ضرورة وجودية.
وبينما عرف التاريخ زعماء أكثر بلاغة أو قدرة خطابية، فإن قلة فقط جعلت الكلام ذاته محور السلطة، كما فعل ترمب. إنه لا يتحدث لأنه قائد، بل يبدو قائداً لأنه لا يتوقف عن الكلام.
