خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

صدمة الإعلام الأميركي: نقاش أقل... وفعل أكثر

استمع إلى المقالة

لم تكن زيارتي الأولى إلى الولايات المتحدة سعيدة. تزامنت مع تجربة شخصية مؤلمة، وزادت سوءاً بتوقيفي بالقرب من مبنى «البنتاغون» بسبب ملامحي، واحتجازي حتى انتهى موظفون يتحدثون العربية من تفتيش رسائلي النصية و«إيميلاتي». كانت الزيارة في مطلع 2006، في قلب الحرب على الإرهاب وتبعات غزو العراق.

بحكم مهنتي، حرصت أثناء الزيارة على متابعة الإعلام الأميركي. لفت انتباهي اختلافه عن نظيره البريطاني، البلد الذي أعيش وأعمل فيه. بدا لي التفسير بديهياً: الولايات المتحدة قوة تقود العالم، مطلوب منها أن تفعل، بينما بريطانيا تتحدث في مساحة أوسع من قدرتها على الفعل. لكن مع المتابعة، وجدت هذا التفسير قاصراً. فلو كان الأمر متعلقاً بالموقع الدولي وحده، لاختفى الفارق في تناول الشؤون الداخلية. الاختلاف كان أعمق من ذلك. كان في تعريف معنى «المشكلة» نفسه.

في الثقافة الأميركية، المشكلة ليست فجوة بين واقع قائم ووضع مثالي متخيل مكتوب في كتالوج. نحن هنا... الآن. والمشكلة هي ما يعوق قدرة الفرد أو المجتمع على إنجاز شيء محدد. ما يمنع الفعل الذي أملكه، لا ما يبتعد عن الكمال الذي أتخيله.

يترتب على هذا التعريف أن النقاش لا يستهدف شطب المسافة بين المشكلة ووضع مثالي، بل يستهدف تجاوز عائق يمنعنا من خطوة تالية. ومن هنا، فإن السلوك الذي يحقق هذا التجاوز، ويسهل حياة الناس، هو ما يمكن تعريفه بالصواب أو «الخلق الجيد».

والمفارقة أن بريطانيا كانت تاريخياً رائدة الفلسفة التجريبية، وهي التي رسخت فكرة «أخلاقية النتائج لا أخلاقية الدوافع». حين يذكر آدم سميث يقترن اسمه بأفكار مثل رفع الكفاءة عبر تقسيم العمل: هذا يدق المسامير، وذاك يصنع النعال، والثالث يضبط الجلود، فينتج المصنع عدداً أكبر من الأحذية.

أما «ملل العمال» من هذا النظام فلا وجود له إن لم يشتكِ منه العامل نفسه. فإن فَعَلَ تحول إلى قيمة كمية تُوازَن مع القيمة الإيجابية لكفاءة النظام ومن ثم جودته حتى للعامل نفسه، بمنطق «عساه يكرهه وهو أفضل له».

إنتاج أحذية أكثر ليس مجرد رقم في حسابات المصنع، بل أتاح الحذاء لملايين لم يكونوا قادرين على شرائه من قبل، بينهم العامل نفسه. ومنطق آدم سميث أتاح لنا نحن قدراً من الرفاهية لم يكن يحلم به أجيال سبقتنا. كل كائن في الطبيعة، ومنهم البشر على اختلاف مناصبهم، يحافظ على بقائه بإجراءات ليست دائماً مثالية.

ما حدث لاحقاً كان أوربة الذهنية البريطانية، فانتقلت من عقل تجريبي طبيعاني إلى عقل أثيني ينشغل بالجدل بينما فيليب على الأبواب.

بعد ست سنوات عدت إلى الولايات المتحدة لشهرين في إطار منحة للكتاب، متزامنة مع السباق الانتخابي بين أوباما ورومني، ومع ما كانت تعيشه مصر تحت حكم «الإخوان». فصار الأثر أعمق.

العملانية الأميركية في مواجهة التسامي النظري الأوروبي، والإجرائية في مواجهة الأخلاق الافتراضية، أعادتا تشكيل رؤيتي السياسية. ما قيمة تحقيق عدالة متخيلة إن كانت النتيجة أن يعيش الجميع في مستوى أدنى؟ وما قيمة تضييق الفوارق إن كانت الطبقات كلها ستنحشر بين الطابقين الأول والثالث؟

حتى تجربة توقيفي تغيرت نظرتي إليها. ساعتان في سيارة شرطة كانتا مزعجتين على المستوى الشخصي. ليس هذا وضعاً مثالياً. الوضع المثالي أن يختفي الإرهاب ومعه الداعي إلى الاشتباه. لكن الواقع أن الدولة واجهت تهديداً إرهابياً عميقاً، فكانت تتعامل مع مشكلة حقيقية تمس أمن مجتمع كامل. وهي تحاول الموازنة.

المعرفة لا تُلتقط من النقاش الافتراضي، والبيان الساحر لا يحسن الحياة، بل التجربة واختبار النتائج، والاقتراب من قانون الطبيعة واحترام مساراتها، وحصر محاولات تعديلها في أضيق الحدود الضرورية لتنظيم مجتمع إنساني. افتراض عالم مثالي، وتحويل المسافة بيننا وبينه إلى ساحة للمشاكل، ينتجان عالماً أسوأ، بغض النظر عن النوايا.