ثمة اتفاق عام حول أن ليز تراس، رئيسة وزراء بريطانيا الجديدة التي ربما لا تبقى في هذا المنصب لفترة طويلة، منفصلة عن الواقع.
وتبدو مناورتها الكبيرة التي أعلنتها بمجرد نيلها خلافة بوريس جونسون، والمتمثلة في ميزانية صغيرة تزدحم بالتخفيضات الضريبية، أقرب إلى كارثة سياسية؛ ذلك أنها تميل بتهور باتجاه التضخم وتزعزع الاستقرار المالي. من المنظور السياسي، تبدو الميزانية المصغرة أكثر جنوناً. في الوقت الحالي، يتمثل الموقف الانتخابي المناسب لحكومات يمين الوسط في العالم الغربي في مزيج من التوجهات المحافظة الثقافية (وليس الدينية) والاعتدال الاقتصادي النسبي، بمعنى سياسة يمينية مناهضة لليبرالية، تميل لصالح دولة الرفاه، وتبدي التشكك إزاء الهجرة، وهي سياسة قادرة على اجتذاب الجماهير التي تعاني من العولمة ويخالجها القلق إزاء الهوية الوطنية.
في الواقع، هذا هو نمط السياسة الذي أدى تواً لانتصار الحركة الشعبوية التي تقودها جيورجيا ميلوني في إيطاليا، وأدى كذلك إلى إدخال الشعبوية اليمينية في التيار الرئيسي للسياسة السويدية. كما أنها السياسة التي يتلمسها الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة على الدوام من دون الوصول إليها تماماً.
في المقابل، نجد أن ليز تراس ذهبت في الاتجاه المعاكس، ليس فقط من خلال دفعها نحو خفض الضرائب، وإنما أيضاً بتشجيعها على توسيع نطاق الهجرة، ما يعد مضياً لكن على نحو أقوى في وصفة النمو التي كانت متبعة في الثمانينات، ويشبه الأمر رحلة حنين نحو حقبة «ريغان - ثاتشر»، التي دفعت المحافظين بعيداً عن ناخبيهم، وحصل بسببها الحزب على نتائج مروعة في استطلاعات الرأي.
والآن، هل ثمة ما يمكن قوله دفاعاً عن رئيسة الوزراء المتعثرة؟ لا يسعنا سوى القول إنه عندما يعود السياسيون، على نحو يبدو مجافياً للمنطق، إلى أفكار تبدو قديمة بالية وغير مناسبة للحظة الراهنة، غالباً ما يكون ذلك مؤشراً على أن مشكلات اللحظة الراهنة ليس لديها حلول واضحة. ومع أن عادات الماضي ربما تكون خاطئة، فإنها على الأقل تبدو مألوفة على نحو جذاب.
ويمثل هذا تحديداً المأزق الذي يجابهه التيار المحافظ الأوروبي في الوقت الحالي. وباستطاعة هذا التيار الفوز بالسلطة لأن المؤسسة القديمة، التي من المفترض أنها الوسط العقلاني، أسهمت في خلق وفشلت في حل ثلاث مشكلات مترابطة؛ أولاً: أثرت العولمة والتكامل الأوروبي على دول القلب أكثر من الأطراف، والحواضر أكثر من المناطق النائية. ثانياً: أدت الثروة والعلمنة والركود الاقتصادي إلى انخفاض معدلات المواليد في أوروبا، ما يهدد بتراجع أعداد السكان وانحساره. ثالثاً: أسهم الحل الوسطي المفضل لكل من الركود الاقتصادي والانحسار الديموغرافي، ومن ثم الهجرات الجماعية، في خلق حالة من البلقنة والجريمة وإثارة رد فعل عنيف من جانب أبناء البلاد الأصليين، حتى داخل معقل تقدمي مثل السويد.
ويعتبر اليمين الشعبوي هو الوحيد الذي يتحدث باستمرار عن المشكلات الثلاث، ومن هنا تحديداً تنبع الميزة السياسية التي يتمتع بها هذا التيار في الوقت الراهن. إلا أن التساؤل هنا: هل يعرف اليمين الشعبوي كيف يتعامل معها؟ ليس تماماً. من جانبه، وعد بوريس جونسون، سلف ليز تراس، بإعادة توازن الاستثمارات التي من شأنها أن تفيد المناطق المهملة غير اللندنية في بريطانيا، ويمكنك أن تجادل بأن إعادة التوازن الأكبر هو ما يجب أن تثيره كل هذه المشكلات... التحول من الإنفاق العام على كبار السن إلى الإنفاق على الشباب والآباء. وهنا، ينبغي التحول من الإنفاق على الرعاية الاجتماعية إلى السياسة الصناعية، والتحول من الاعتماد على المهاجرين لتعزيز الناتج المحلي الإجمالي إلى الاستثمار في النمو المحلي والتجديد الإقليمي، وكذلك التحول من إلغاء القيود نيابة عن التمويل إلى إلغاء التنظيم نيابة عن العائلات الشابة التي لا تستطيع حالياً تحمل تكلفة شراء منزل.
ومع ذلك، فإن كل واحدة من هذه الأفكار تتطلب عناية فائقة بالتفاصيل، أي نوع من السياسات الصناعية؟ أي نوع من سياسات الأسرة؟ وقد يستغرق الكثير منها جيلاً كاملاً ليؤتي ثماره.
في الوقت ذاته، فإن الكثير من الناخبين المحافظين لديهم مصلحة في الوضع الراهن. ورغم أنه لا يروق لهم كيف تغيرت الأمور، فإنهم لا يعترفون بالكيفية التي أسهموا من خلالها في خلق هذه المشكلات. والاحتمال الأكبر أن يقاوم الناخبون الأكبر سناً، على وجه الخصوص، عمليات إعادة التوازن التي تقلل من معاشاتهم التقاعدية أو قيمة منازلهم، حتى لو كانت إعادة التوازن هذه ضرورية لاستعادة النشاط المجتمعي الذي يفتقدونه.
أضف إلى ذلك حدود الإنفاق التي فرضها فجأة التضخم وأزمة الطاقة في زمن الحرب، وسيصبح لديك سيناريو قد ينتهي فيه الأمر بالشعبويين كأوصياء يمينيين على نفس حالة التصلب التي ساعدتهم في الوصول إلى السلطة، بحيث يحكمون كمدافعين عن شوفينية محتدمة، بدلاً من التقاليد الفعلية (لأن القارة العلمانية ليست تقليدية في الواقع)، والحفاظ على ثقافة قديمة تليق بالمتاحف لأطول فترة ممكنة ضد موجات الهجرة الأخرى، مع بعض الغضب تجاه الأفول الحضاري الذي تقدمه جيورجيا ميلوني في خطاباتها النارية، لكن من دون خطط لإحداث تحول حقيقي داخل المجتمعات التي تعاني من تراجع سكاني وانخفاض الموازنات.
لن يكون الخطر الاستبدادي في هذا النوع من السياسات الشعبوية هو الفاشية العدوانية الداعية للحرب في الثلاثينات. سيكون الحارس الخيالي لإنجلترا، الديكتاتور الذي يحكم إنجلترا المحتضرة بلا أطفال في رواية P. D.
لكي تشعر ببعض التعاطف مع مغامرة ليز تراس التي تعود إلى الثمانينات، عليك فقط التفكير في هذا السيناريو البديل. في مواجهة مستقبل أوروبي معقول وقاتم للغاية، ليس من المستغرب أن يسعى بعض السياسيين اليمينيين إلى البحث عن ملاذ في المستقبل الأسعد والأبسط الذي وعد به الماضي.
* خدمة «نيويورك تايمز»
TT
هل ستقضي «النوستالجيا» على اليمين البريطاني؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة